باسبورك

زيارتكم تسرنا ،مرحب بكم، تعاليقكم وارتساماتك تشجعنا على بذل الجهد من أجل محتوى مفيذ

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

اللغة كأداة للهيمنة أو للتحرر: تحليل سوسيولغوي للخطاب الإعلامي

 


الإطار النظري: اللغة كبنية اجتماعية محملة بالأيديولوجيا

تتجاوز اللغة وظيفتها الأساسية كوسيط للتواصل البسيط لتصبح بنية اجتماعية معقدة، قادرة على تشكيل الوعي المجتمعي أو تقييده.1 هذا الفهم يتجذر في علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics)، وهو حقل معرفي يدرس العلاقة الجدلية بين اللغة والمجتمع.2 يسعى هذا العلم إلى كشف الأنماط اللغوية وفهم أسباب اختلافها، إضافة إلى تحديد الوظائف الاجتماعية التي تؤديها اللغة داخل الجماعات.2 في سياق الإعلام، تتعدد هذه الوظائف لتشمل: الوظيفة الإعلامية التي تختص بتوصيل المعلومات والحقائق، والوظيفة التعبيرية التي تعبر عن المشاعر أو تحركها، والوظيفة الإقناعية التي تستخدم اللغة لتوجيه الجماهير نحو وجهة نظر معينة، وأخيراً الوظيفة الواقعية التي تنقل صورة العالم الحقيقي.3 إن دراسة العلاقة بين اللغة والسلطة تكشف الطرق التي يتم من خلالها استغلال الكلمات للتأثير على التفكير والتحكم في الفعل الاجتماعي.1

اللغة والسلطة: من رأس المال الرمزي إلى الهيمنة الأيديولوجية

يُعدّ مفهوم "رأس المال اللغوي" الذي صاغه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إطاراً محورياً لفهم العلاقة بين اللغة والهيمنة. يعتبر بورديو اللغة والثقافة شكلاً من أشكال "رأس المال الرمزي"، الذي يمنح حامله قوة ومكانة في "السوق اللغوي".4 يتضح هذا المفهوم بشكل جلي في مجتمعات ما بعد الاستعمار، حيث تحدد النخب المسيطرة في قطاعات مثل التعليم والإدارة والأعمال اللغة أو السجل اللغوي الذي يمتلك القيمة الأعلى.4 يصبح إتقان هذه اللغة، مثل الفرنسية في المغرب، شرطاً أساسياً للتقدم الاجتماعي والاقتصادي، مما يحول الكفاءة اللغوية من مجرد مهارة إلى شكل من أشكال رأس المال.4 وكنتيجة منطقية، يُنظر إلى الأفراد الذين لا يمتلكون هذا "رأس المال اللغوي" على أنهم "أقل كفاءة" ويُعزلون على "هامش المجتمع".5 هذه الآلية تعمل على إعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية من خلال اللغة، مما يضمن استمرارية الفوارق الطبقية والثقافية عبر الأجيال.

تحليل الخطاب النقدي (CDA): المنهجية والأدوات

يُعتبر تحليل الخطاب النقدي (CDA) منهجية تحليلية تهدف إلى كشف التفاعلات المعقدة بين اللغة والسلطة والمجتمع.9 يرفض هذا المنهج الاكتفاء بالتحليل النصي المجرد، بل يصر على ربط النص بـ "سياقاته غير اللغوية" مثل السياقات التاريخية والذهنية والاجتماعية.10 من أبرز رواد هذا المجال نورمان فير كلاف، الذي طور منهجه الثلاثي الأبعاد: تحليل النص، تحليل الممارسة الخطابية، وتحليل الممارسة الاجتماعية، مؤكداً أن كل خطاب يحمل أيديولوجيا معينة.11 وهناك أيضاً فان دايك، الذي ركز على البعد الذهني، أي على التمثيلات الذهنية والأيديولوجيا، وكيف تؤثر على إنتاج الخطاب وتلقيه.11

إن التحليل المتعمق لهذه المنهجية يكشف أنها ليست مجرد أداة وصفية محايدة، بل هي "مشروع علمي مشروط بالخيار السياسي" 12 وله "سمة نقدية" واضحة.11 يختار محلل الخطاب النقدي النصوص التي يرى أنها "سلبية وتسبب أضراراً في المجتمع" 11 بهدف التوعية. هذا الاختيار المسبق يجعل التحليل جزءاً من ممارسة اجتماعية تسعى للتغيير، مما قد يعرض المنهج لانتقادات مفادها أنه يفتقر إلى الاتساق أحياناً 12 أو أنه يمارس نوعاً من التلاعب من خلال تحديد ما هو "صالح" وما هو "ضار".11 وهذا التناقض الجوهري بين كونه منهجاً علمياً وأداة للتغيير الاجتماعي يمثل نقطة محورية في فهم طبيعة هذا الحقل المعرفي.

المدرسة/الرائدالمفهوم الأساسيالأهداف
نورمان فير كلافالمنهج الثلاثي الأبعاد (النص، الممارسة الخطابية، الممارسة الاجتماعية)الكشف عن دور الخطاب في تشكيل العلاقات الاجتماعية وتحديها، وإبراز كيف أن الخطاب ليس بريئاً بل يحمل أيديولوجيا.
فان دايكالنموذج السوسيومعرفي (Socio-cognitive model)التركيز على التمثيلات الذهنية (الأيديولوجيا والمعرفة) ودورها في إنتاج الخطاب وتلقيه، وربط الخطاب بالواقع المجتمعي.
ميشيل فوكوالخطاب والسلطةدراسة كيفية استخدام الخطاب لتعزيز أو تحدي السلطة، وتشكيل الهويات الاجتماعية.

الخطاب الإعلامي للهيمنة: آليات التشكيل والتكريس

يُستخدم الخطاب الإعلامي بشكل ممنهج للتأثير على العقول وتشكيل الوعي المجتمعي، عبر آليات لغوية معقدة.1 يعتمد الإعلام في ذلك على أدوات سردية تساهم في صناعة الوعي، مثل التغطية الانتقائية والمشوهة التي تركز على السلبيات والإخفاقات، وتقدم صوراً نمطية عن الشعوب، مثل اختزال صورة العربي في صورة "الإرهابي" أو "الضحية العاجزة".13 كما يُستخدم الخطاب في تقديم المشاكل العربية على أنها "صراع ديني أزلي" أو "فوضى حتمية"، مع إهمال السياقات التاريخية والاستعمارية.13 يهدف هذا التوظيف للغة إلى زرع إحساس باليأس والتبعية لدى المتلقي، مما يجعله يتقبل واقعه المرير.13

"صحافة الحرب" كنموذج تطبيقي للهيمنة

تُقدم "صحافة الحرب" نموذجاً تطبيقياً قوياً لكيفية استخدام اللغة كأداة للهيمنة. على النقيض من "صحافة السلام" التي تسعى إلى تسهيل الحوار والتركيز على جذور النزاعات 14، فإن صحافة الحرب تعتمد على مبدأ "نحن والآخر".14 يتبنى الخطاب الإعلامي في هذه الحالة نهجاً دعائياً يهدف إلى شيطنة العدو وتغذية الانقسام والكراهية عبر التهويل والانحياز.14 إن هذا التمييز لا يمثل مجرد تصنيف، بل هو كشف عن آلية عميقة لتوظيف اللغة كسلاح حرب.14 فمن خلال استخدام مصطلحات مشحونة عاطفياً مثل "إرهابي" أو "متمرد" بدلاً من مصطلحات محايدة، يتم تحويل الواقع المعقد إلى سردية مبسطة قائمة على صراع بين "الخير" و"الشر".1 هذا التلاعب اللغوي يخدم "أهداف المخطط الدعائي" 16 ويهيئ الرأي العام لقبول ودعم السياسات العدوانية، مما يوضح الرابط المباشر بين الهيمنة اللغوية والسيطرة السياسية.

هيمنة الخطاب الأجنبي: حالة المغرب كنموذج للهيمنة اللغوية المستمرة

يمثل المشهد اللغوي في المغرب حالة معقدة من الازدواجية بين اللغة العربية الفصحى والعامية، إلى جانب هيمنة لغة أجنبية.17 فبعد عقود من الاستقلال، لا تزال اللغة الفرنسية تُستخدم كلغة أولى في مجالات الأعمال والدبلوماسية والحكومة، كما أنها لغة شائعة بين النخب وشرط أساسي للحصول على العديد من الوظائف.6 تُعدّ هذه الهيمنة اللغوية استمراراً لإرث الاستعمار، حيث تُستخدم اللغة الفرنسية كأداة لتكريس الهيمنة وتحقيق المصالح.6

إن هيمنة اللغة الفرنسية ليست مجرد إرث تاريخي، بل هي "وصاية" مستمرة، تُكرّس الفجوة بين المغرب والمشرق العربي وتُشيطن رأس المال العربي لصالح المصالح الفرنسية.19 تُستخدم القنوات والصحف الفرنكوفونية كأدوات لتثبيت هذه الهيمنة، فبعضها يقدم غالبية مواده باللغة الفرنسية، رغم أن جزءاً كبيراً من الجمهور أمي بلغته العربية.8 هذا الوضع يعزز من التغلغل الآمن للفرنسية في النسيج الثقافي المغربي، مما يضمن استمرار السيطرة السياسية والاقتصادية للوبي الفرنكوفوني في البلاد.7

الخطاب الإعلامي للتحرر: المقاومة وبناء السرديات البديلة

في مقابل آليات الهيمنة، يمكن أن تكون اللغة وسيلة للتحرر إذا ما تم استغلالها بوعي لتعزيز العدالة والمساواة.1 يُقدم الإعلام الرقمي ساحة جديدة لهذا التحرر، حيث يتيح للجمهور الوصول إلى "معلومات متعددة المصادر" ومقارنتها، مما يضعف الاحتكار الإعلامي التقليدي ويُمكّن الأصوات المهمشة.20

"صحافة السلام" والخطاب المقاوم

تُقدم "صحافة السلام" نموذجاً قوياً للغة التحرر، فهي تسعى إلى "تسهيل الحوار" و"فضح التضليل" والتركيز على "جذور النزاع" بدلاً من نتائجه.14 ومن الأمثلة التطبيقية على "الخطاب الإعلامي المقاوم" ما ظهر خلال حرب تموز، حيث لم يكتف الإعلام بتصوير الوقائع، بل عمل على "تهيئة الأرضية المعرفية" لدى المتلقي عبر تقديم مصطلحات جديدة مثل "المفاجآت" التي صعقت العدو.21 هذا الخطاب لم يكتفِ بالنقل، بل عمل على بناء سردية بديلة تُمكّن الجمهور.

جهود تعزيز الهوية اللغوية في الإعلام العربي

إن الحفاظ على اللغة العربية في الإعلام ليس مجرد قضية لغوية، بل هو "مشروع قومي" يمس "كيان الأمة وهويتها".22 تشمل المقترحات والحلول التي وردت في المواد البحثية ضرورة وضع سياسة لغوية قومية، وتحديث مناهج التعليم، وتعزيز استخدام اللغة العربية في الإعلام والإعلان.22 وبالرغم من أن الإعلام قد يشجع المحكيات المحلية وينشر الأخطاء اللغوية 22، فإنه قادر على أداء دور إيجابي في نشر اللغة العربية الفصحى وتعميمها على المتعلمين والأميين على حد سواء.23 لا يمكن فصل الضعف اللغوي عن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 22، مما يجعل من تنشيط دور مجامع اللغة العربية لتعريب المصطلحات وتثقيف الإعلاميين خطوة حاسمة نحو التحرر اللغوي والثقافي.23

قضايا وإشكاليات في السياق العربي: دراسات حالة ومفكرون

مساهمات عربية في علم اللغة الاجتماعي وتحليل الخطاب

يؤكد هذا التقرير على أن دراسة اللغة والسلطة ليست حكراً على الفكر الغربي، بل لها جذور عميقة في السياق العربي. من أبرز رواد هذا المجال الدكتور علي عبد الواحد وافي، الذي يُعتبر أحد مؤسسي "علم الاجتماع العربي" 24، حيث سعى إلى تحرير هذا العلم من التبعية للغات الأجنبية وأسس لدراسة العلاقة بين اللغة والمجتمع.24 كما يُسلط الضوء على أعمال هادي النهر، الذي أكد في كتابه "اللسانيات الاجتماعية عند العرب" على أن العلاقة بين اللغة والمجتمع "قائمة منذ أن وُجدت اللغة ووجدت الحياة الاجتماعية".26 وقد قدم المفكر الزواوي بغورة تحليلاً نقدياً للعلاقة بين اللغة والسلطة، وربطها بقضايا الهوية، وقدم دراسة تطبيقية على قضية التعريب في الجزائر، مبيناً كيف طغى عليها الطابع الأيديولوجي على حساب الطرح العلمي.28 هذه المساهمات تؤكد على أصالة الطرح العربي في هذا المجال وتضيف له مصداقية.

"الربيع العربي": حالة ثورية للتحرر اللغوي

يمثل "الربيع العربي" دراسة حالة فريدة على العلاقة بين اللغة والتحرر. فقد شهدت هذه الفترة ظهور "الخطاب الثوري غير الرسمي" الذي اعتمد على الرمزية والشعارات والحشد الشعبي 29، والذي كان بمثابة تحرر لغوي من الخطاب الرسمي الضعيف والمتهالك. إن ظهور هذا الخطاب كان ممكناً بفضل الإعلام الرقمي الذي كسر احتكار السلطة لوسائل الإعلام التقليدية.20 سمحت المنصات الرقمية للأفراد العاديين بأن يصبحوا منتجين للمحتوى 20، مما أدى إلى إنتاج خطاب جديد يعكس الواقع المجتمعي.10 هذا الخطاب الجديد اكتسب زخماً من الجماهير وأصبح أداة رئيسية في "صناعة الرأي العام".20 هذا التطور يوضح أن التحرر من الهيمنة السياسية يمكن أن يبدأ بالتحرر من الهيمنة اللغوية، حيث أن كسر احتكار الخطاب يمهد الطريق لكسر احتكار السلطة.

الخاتمة: نحو رؤية مستقبلية لخطاب إعلامي تحرري

يُظهر التحليل السوسيولغوي للخطاب الإعلامي أن اللغة ليست أداة محايدة، بل هي ساحة صراع أيديولوجي تُستخدم إما لترسيخ الهيمنة أو لتحقيق التحرر. إن الوعي النقدي بآليات استخدام اللغة هو الخطوة الأولى نحو تفكيك الهيمنة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تُمارس عبر الكلمات.1 لقد أثبت التقرير أن التحرر اللغوي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحرر السياسي والاجتماعي، وأن الإعلام، سواء كان تقليدياً أو رقمياً، يؤدي دوراً حاسماً في هذا الصراع.

بناءً على ما تقدم، يُوصى بتبني مجموعة من الإجراءات لتعزيز خطاب إعلامي تحرري في العالم العربي:

  1. دعم الإعلام الرقمي: الاستمرار في تطوير الإعلام الرقمي كأداة لتمكين الأصوات المهمشة وتوفير منصات للنقاش العام، بما يضمن تعددية المصادر وتنوع الخطابات.20

  2. إصلاح السياسات اللغوية: وضع سياسات لغوية إعلامية واضحة توازن بين الحفاظ على اللغة العربية الفصحى كلغة للهوية والمعرفة، ومواكبة متطلبات العصر عبر تعريب المصطلحات وتحديث المناهج.22

  3. التعليم النقدي: تضمين مادة "تحليل الخطاب النقدي" في المناهج الأكاديمية في كليات الإعلام والآداب 31، بهدف زيادة الوعي النقدي لدى الإعلاميين والجمهور حول كيفية استخدام اللغة للتأثير، مما يُمكّنهم من كشف الخطابات المضللة والموجهة.9

عن الكاتب

حميد إدريس بنيوسف

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

باسبورك