القائمة الرئيسية

الصفحات

مسار القيادة الملكية لمحمد السادس: من "الحكمة التأسيسية" إلى "الريادة الاستراتيجية" (1999–2025



1. الإطار المرجعي والمفاهيمي للقيادة الملكية: تحليل الثبات في التطور

إن تطور مسار القيادة في المملكة المغربية، المتمثل في الانتقال من مقاربة "الحكمة" إلى مقاربة "الريادة"، يمثل تجسيداً لرؤية ملكية استشرافية ترتكز على الثبات المؤسساتي والشرعية التاريخية. هذا المسار لا يعكس مجرد تغيير في الأولويات، بل يمثل تحولاً منهجياً في الأدوات والآفاق الاستراتيجية للدولة، مدفوعاً بضرورة التكيف مع التحولات الداخلية والعالمية المعقدة.

1.1. الأصول الفكرية والسياسية لمصطلحي "الحكمة" و"الريادة"

يتجذر الخطاب الملكي المغربي في منظومة سياسية ودينية تمنح المؤسسة الملكية دوراً محورياً يتجاوز إمارة المؤمنين. فبالإضافة إلى وظيفته الدينية، يحمل الملك صفات "رمز" و"حامي" و"ضامن"، وهي دلالات تكرس مكانته كفاعل أساسي ومحرك للحياة المؤسساتية.1 إن هذا الحضور الرمزي الكثيف للقيادة هو ما يدعم استمرارية الشرعية والقدرة على تبني الرؤى بعيدة المدى، التي تتطلب صبراً استراتيجياً لا يتوفر للفاعلين السياسيين المؤقتين.

يُكرّس الخطاب الملكي كموقع للتاريخ، حيث يجمع الرؤى والتصورات التي تتجاوز الزمن الانتخابي للبرامج الحكومية، فارضاً "سرعة أخرى" على السياسة الوطنية، وهي سرعة المدى الطويل.2 هذا التميز الزمني هو العنصر الحاسم الذي يمكّن الدولة من صياغة وتنفيذ استراتيجيات عابرة للولايات الحكومية، مثل مخططات 2030 أو 2035. إن مفهوم "الحكمة" في هذه السياق يمثل التأنّي والصبر اللازمين لترميم الداخل وبناء المؤسسات، بينما تمثل "الريادة" الجرأة والتنافسية اللازمين للتموضع في الساحة الدولية. ويعترف مجمل مكونات المجتمع المغربي، من قطاع خاص ومجتمع مدني ومؤسسات دولة، بهذا الخطاب الملكي المتعدد والموحد كنواة تدور حولها الاختلافات، مما يعزز قدرته على لم الشمل وتجاوز التفرقة.2

1.2. دلالات الثبات والتحول في الرؤية القيادية

إن قدرة القيادة على الانتقال من مقاربة الإصلاح التأسيسي (الحكمة) إلى مقاربة التموضع التنافسي (الريادة) لا يمكن أن تتحقق دون سلطة مركزية تملك "الزمن الطويل" كإطار مرجعي. إن مرحلة الحكمة كانت بمثابة استثمار استراتيجي في الاستقرار الداخلي، حيث كان الهدف الأسمى هو طي ملفات الماضي الحساسة (المصالحة) ووضع أسس متينة لشبكة الأمان الاجتماعي (التنمية البشرية)، لتأمين الشرعية الداخلية. هذه الشرعية والاستقرار هما الشرط المسبق الذي مكّن مرحلة الريادة لاحقاً من التفرغ لتحديات التموضع الخارجي والتنافس الاقتصادي العالمي.

يؤكد هذا التطور أن "الريادة" ليست مجرد طموح اقتصادي، بل هي استراتيجية وطنية تتجاوز حدود الحكامة الحكومية اللحظية. فبينما تقيّد الأحزاب السياسية بمدة ولايتها الزمنية (أربع أو خمس سنوات)، فإن الأهداف الاستشرافية للريادة (2030 وما بعدها) تتطلب سلطة مرجعية قادرة على فرض ومتابعة هذه السرعة الاستراتيجية.2 هذا التمييز يفسر الطبيعة الشاملة للخطط الكبرى، التي تضمن استمرار العمل بغض النظر عن التغيرات السياسية الداخلية.

2. مرحلة "الحكمة" (1999-2010): التأسيس والإصلاح الهيكلي

تُعد هذه المرحلة، التي تلت اعتلاء الملك محمد السادس العرش، فترة انتقالية حاسمة ركزت على "إعادة التأهيل" الداخلي. كان الهدف الأساسي هو بناء قاعدة مؤسساتية صلبة ومعالجة الإرث الاجتماعي والسياسي لسنوات ماضية، بما يضمن استقرار النسق الاجتماعي وتهيئة المناخ للإصلاحات الأعمق.

2.1. المصالحة الوطنية وطمس الماضي (هيئة الإنصاف والمصالحة)

شكل إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة (IER) خطوة تأسيسية في مقاربة الحكمة. كان الهدف هو مصالحة المغاربة مع تاريخهم وتسوية ما شاب الفترات السابقة من تجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان.4 باشرت الهيئة مهامها وفق خطة عمل مدروسة، تستند إلى قيم ومبادئ حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني المتعلق بالحق في معرفة الحقيقة والحق في الانتصاف.5

وقد حققت الهيئة مكاسب مهمة رغم طبيعتها غير القضائية.6 فقد تمكنت من تحديد وحل قضايا قديمة للاختفاء القسري والاعتقال التعسفي التي أدت إلى الوفاة، وتحديد أماكن دفن الضحايا لتمكين أقاربهم من زيارتهم.4 بالإضافة إلى جبر الضرر المادي والمعنوي ورد الاعتبار للضحايا، كان الهدف الأسمى هو توفير الضمانات الكفيلة بالوقاية والحماية من عدم تكرار الماضي، وإرساء ثقافة التسامح.4 وتمت متابعة تنفيذ توصيات الهيئة عبر إحداث لجان وزارية ومؤسساتية متخصصة لضمان تفعيل التوصيات في مجالات الحقيقة والضمانات.5 كان هذا العمل بمثابة استثمار عميق في الشرعية الداخلية وتأمين للمستقبل، حيث لا يمكن تحقيق الريادة الاقتصادية دون طي ملفات الماضي المؤلمة.

2.2. الإصلاحات القانونية والاجتماعية الكبرى (مدونة الأسرة 2004)

من أبرز الإنجازات القانونية في مرحلة الحكمة كانت المصادقة على مدونة الأسرة في 2004. مثلت المدونة نقلة نوعية في تحديث القانون الاجتماعي، ورسخت مبدأ المساواة والعدل داخل الأسرة. من أهم المستجدات القانونية التي جاءت بها المدونة المادة 49، التي ضمنت لكل من الزوجين ذمة مالية مستقلة، مع إجازة الاتفاق بينهما على تدبير الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج.7

شكلت المدونة مجالاً لسجال واسع بين الاتجاهات المحافظة والحداثية، لكنها تبنت مقاربة متوازنة، اعتمدت على الاحتكام إلى مقاصد الشريعة الإسلامية والاجتهاد المنفتح، فيما وصف بأنه "إمساك عصا المدونة من وسطها" لتجنب الاحتقان الاجتماعي.9 وقد أثبت هذا الإصلاح أن التركيز على التنمية البشرية في مرحلة الحكمة كان مزدوجاً، يشمل البعد القانوني والاجتماعي إلى جانب البعد الميداني.

2.3. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) - المرحلة الأولى (2005-2010)

شهد عام 2005 إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH)، التي شكلت أول آلية شاملة لمكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي، خاصة في المناطق التي تعاني من الهشاشة.10 مثلت هذه المرحلة الأساس التأسيسي، حيث وضعت اللبنات الأولى لمقاربة تشاركية في التنمية من خلال إشراك الساكنة المحلية والفاعلين الجمعويين في تحديد الأولويات.11

ركزت آليات العمل في هذه المرحلة على أربعة أنواع رئيسية من العمليات: دعم الولوج إلى التجهيزات والخدمات الاجتماعية الأساسية، دعم الأنشطة المدرة للدخل، التنشيط الاجتماعي والثقافي والرياضي، وتعزيز الحكامة وتقوية القدرات المحلية.10 هذه التدخلات كانت ضرورية لتدارك الخصاص الهيكلي، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، ودمج الفئات الهشة، مما عزز قاعدة الشرعية الاجتماعية اللازمة لدعم التحولات الاقتصادية اللاحقة.

2.4. تأهيل البنية التحتية التأسيسية

تزامناً مع الإصلاحات الاجتماعية، انخرط المغرب في مشاريع البنية التحتية الكبرى التي كان لها تأثير على النسيج الاقتصادي. ففي هذه الفترة، تم وضع أسس تطوير الشبكة الطرقية والسكك الحديدية.12 الأهم، هو انطلاق العمل بميناء طنجة المتوسط 1؛ إذ بدأت الأشغال في 2003 ودُشن الميناء في 2007.13 يمثل هذا المشروع جسراً بين مرحلتي الحكمة والريادة؛ فتأسيسه كان عملاً تأسيسياً ضمن مقاربة الحكمة، ولكنه حمل في طياته رؤية التموضع الاستراتيجي التي ستتجسد في مرحلة الريادة.

3. مفصل التحول الاستراتيجي (2010-2011): التحول إلى الريادة

يمثل عام 2011 نقطة انعطاف محورية في مسار القيادة، حيث أعلن خطاب 9 مارس 2011 عن تحول نوعي من التركيز على الإصلاح الهيكلي إلى تبني مقاربة استراتيجية تستهدف التموضع الإقليمي واللامركزية المتقدمة.

3.1. خطاب 9 مارس 2011 والإصلاح الدستوري

جاء خطاب 9 مارس 2011 ليرسم الإطار المرجعي الجديد، حيث أطلق ورش الإصلاح الدستوري الشامل. كان الهدف الأسمى هو توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال برلمان يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة وينتج عن انتخابات حرة ونزيهة.14

في السياق ذاته، أكد الخطاب على أن الجهوية المتقدمة ليست مجرد "بناء إداري"، بل هي "خيار استراتيجي" و"صرح ديمقراطي أساسي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية".15 كان هذا الإقرار بمثابة اعتراف بأن الهياكل المؤسساتية التي تأسست في المرحلة السابقة أصبحت جاهزة للتحول نحو اللامركزية المتقدمة.

3.2. دستور 2011 وترسيخ العدالة المجالية

كرّس دستور 2011، كنتيجة لخطاب الإصلاح، التوجه نحو اللامركزية، حيث خصص 12 فصلاً للجماعات الترابية. بوأت أحكام الدستور الجهة مركز الصدارة ضمن هذه الجماعات، باعتبارها الإطار الأمثل لتنفيذ المشاريع التنموية وتقليص الفوارق الترابية.15 ويرتكز التنظيم الجهوي على مبدأ التدبير الحر، والتعاون والتضامن بين الجهات، وإشراك المواطنين في التنمية المندمجة.15

يمثل هذا التحول الدستوري انتقالاً من منطق "الدولة التي تقود التنمية من المركز" إلى "الدولة التي تضمن شروط التنمية التوازنية" عبر تمكين المستويات المحلية. إن ترسيخ العدالة المجالية عبر الجهوية ليس هدفاً اجتماعياً قائماً بذاته فحسب، بل هو شرط حتمي لاستدامة مشاريع الريادة الكبرى. فبدون معالجة التفاوتات العميقة بين الأقاليم، تصبح الإنجازات الاقتصادية الكبرى عرضة لعدم الاستقرار الاجتماعي. بالتالي، فإن الدستور الجديد عزز الحكامة والنزاهة والفعالية في الأداء الحكومي 14 لضمان بيئة مواتية للريادة الاقتصادية.

4. مرحلة "الريادة" (2010-2025 وما يليها): التموضع كقوة اقتصادية إقليمية فاعلة

بعد تأمين الاستقرار الداخلي والتحول المؤسساتي، دخلت القيادة مرحلة الريادة بهدف تحقيق التموضع الاستراتيجي للمغرب كقوة اقتصادية إقليمية. ترتكز هذه المرحلة على الاستثمار المكثف والموجه في القطاعات التنافسية لدمج المغرب في سلاسل القيمة العالمية ومواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية.

4.1. ريادة البنى التحتية العالمية (اللوجستيك)

تُعد البنية التحتية اللوجستية محرك الريادة الأول. فبعد انطلاق المرحلة الأولى لميناء طنجة المتوسط، شهدت هذه المرحلة إطلاق العمليات المينائية لميناء طنجة المتوسط 2 في عام 2019/2020، مما رفع قدرته الاستيعابية ليصبح الأكبر في البحر الأبيض المتوسط.13 وقد أكد المركب المينائي ريادته الإفريقية لعدة سنوات.13 هذا التخصص في الخدمات اللوجستية يهدف إلى تحويل القرب الجغرافي من أوروبا إلى ميزة تنافسية حقيقية، مما يمكّن المغرب من أن يصبح جزءاً لا يتجزأ من سلاسل القيمة العالمية.17

وإلى جانب الموانئ، استمر تطوير شبكة النقل الداخلي لضمان ربط الأقاليم ودعم الحركة الاقتصادية. يمتلك المغرب شبكة طرق سيارة متطورة يُتوقع أن يصل طولها إلى 3000 كم بحلول 2030، وشبكة سكك حديدية حديثة تشمل أول خط قطار فائق السرعة في إفريقيا (طنجة–الدار البيضاء).12 إن تطوير البنية التحتية الداخلية هو الأساس المادي الذي يعزز ريادة المغرب اللوجستية على المستوى القاري.

4.2. الريادة الطاقية والبيئية (الطاقات المتجددة)

في مواجهة تحديات الطاقة والمناخ العالمية، تبنى المغرب استراتيجية طاقية تهدف إلى تحقيق الاستقلال الطاقي والريادة القارية في مجال الطاقات المتجددة. يهدف المغرب إلى الوصول إلى قدرة إنتاج كهربائي من مصادر متجددة تبلغ 6000 ميغاواط بحلول عام 2030، ورفع حصة الطاقات المتجددة في المزيج الطاقي الوطني إلى 52%.18

من المشاريع الرائدة في هذا المجال برنامج "نور أطلس"، الذي يهدف إلى توسيع نطاق محطات الطاقة الشمسية لتشمل عشر جهات بالمملكة، باستثمارات ضخمة وتمويل دولي. هذه الخطوات تكرس طموح المغرب كقوة رائدة في القطاع الأخضر.18 هذا التخصص يمثل محاولة للهروب من "فخ الدخل المتوسط" من خلال التموضع في قطاعات النمو المستدام والمستقبلي.17

4.3. الاستراتيجيات القطاعية الداعمة للنمو

لتعزيز التنافسية وتوجيه الاقتصاد نحو التخصص، أطلقت الحكومة مجموعة من الاستراتيجيات القطاعية المتكاملة في إطار الرؤية الملكية:

  • الصناعة: مخطط تسريع التنمية الصناعية.

  • الفلاحة: مخطط المغرب الأخضر.

  • الطاقة: الاستراتيجية الطاقية 2030.

  • اللوجستيك والموانئ: الاستراتيجية الوطنية لتنمية التنافسية اللوجستيكية والاستراتيجية الوطنية للموانئ في أفق 2030.19

تعتمد هذه الاستراتيجيات على حكامة واضحة وعلى أدوات للتمويل والتنمية الموجهة، بهدف دعم الاندفاعة التحديثية وجعل المغرب قادراً على المنافسة دولياً.19 إن نجاح هذه الاستراتيجيات يفرض التزاماً صارماً داخلياً بمعايير النزاهة والفعالية 16، لضمان استمرار ثقة الشركاء الدوليين (مثل الاتحاد الأوروبي) في الاستثمار المغربي.17

5. العدالة المجالية والتنمية البشرية كشرط للتقدم (الركيزة الاجتماعية للريادة)

الريادة الاقتصادية لا يمكن أن تستدام إذا لم تكن مدعومة بتنمية بشرية شاملة وتحقيق للعدالة المجالية. كان إطلاق الجهوية المتقدمة وتطور مراحل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) استجابة مباشرة لهذا الشرط.

5.1. الجهوية المتقدمة كآلية للعدالة المجالية

تُعتبر الجهوية المتقدمة هي المدخل الأساسي لتحقيق العدالة المجالية والحد من الفوارق الترابية.15 تسعى الجهوية إلى تجاوز الاختلالات التي رسخها الاستعمار سابقاً بين "المغرب النافع" وغير النافع، من خلال تمكين الجهات من تدبير مواردها وتنفيذ مشاريعها التنموية محلياً.15 إن المطالبة بالعدالة المجالية، والتي تجسدت في بعض الاحتجاجات المجتمعية 21، تؤكد أن الأجيال الجديدة تطالب بجهوية تكون مرآة لعدالة اجتماعية واقتصادية حقيقية، لا مجرد إطار إداري.

إن نظام الجهة يرتكز على مبادئ التعاون والتضامن بين الجماعات، والتدبير الحر، والرفع من مساهمة المواطنين في التنمية المندمجة.15 هذا الإطار القانوني يوفر الأرضية اللازمة لضمان أن فوائد مشاريع الريادة الكبرى لا تقتصر على المدن والمحاور الاقتصادية الرئيسية، بل تمتد لتشمل جميع الأقاليم.

5.2. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH) - المراحل المتقدمة

شهدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تطوراً مستمراً منذ انطلاقها، حيث انتقلت من مقاربة تدارك العجز (المرحلة الأولى) إلى مقاربة الاستثمار في الرأسمال البشري (المرحلة الثالثة).

المرحلة الثانية (2011-2015) ركزت على ترسيخ الحكامة وتقليص الفوارق المجالية، من خلال تعزيز الإدماج الاجتماعي والاقتصادي للفئات المستهدفة.11 وقد ساهمت هذه المرحلة في ترسيخ ثقافة المبادرة الذاتية والاعتماد على الذات لدى السكان المحليين.

أما المرحلة الثالثة (2019-2025)، فقد مثلت تحولاً نحو التركيز على الجوانب اللامادية للتنمية البشرية 22، وذلك من خلال برامج تستهدف الاستثمار في الرأسمال البشري للأجيال الصاعدة على المدى الطويل.23 وتتمحور هذه المرحلة حول محاور رئيسية، أهمها:

  1. برنامج الدفع بالتنمية البشرية للأجيال الصاعدة: يركز على دعم صحة الأم والطفل، ومكافحة الهدر المدرسي، ودعم التعليم الأولي.23

  2. برنامج تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب: يدعم ريادة الأعمال، وتمويل المقاولات الصغيرة، والمواكبة، بهدف خلق فرص للشغل الذاتي.23 ويسعى إلى ديمومة المشاريع من خلال إدماجها في سلاسل القيمة لضمان وقع إيجابي ومستدام.22

إن هذه المرحلة من INDH هي الاستجابة المباشرة لضرورة توفير رأسمال بشري مؤهل وكفء قادر على استيعاب متطلبات الاقتصاد الجديد المرتكز على اللوجستيك والطاقات النظيفة. فالريادة تتطلب ليس فقط بنية تحتية مادية (الموانئ والطرق) بل وبنية تحتية بشرية (التعليم والصحة). إن الارتقاء بأداء المبادرة في المرحلة الثالثة يمثل ركيزة لضمان العدالة الاجتماعية بالتوازي مع النمو الاقتصادي.22

وفيما يلي ملخص لتطور مراحل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية:

تطور مراحل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2005-2025)

المرحلة/الفترةالهدف الأساسيالتركيز البرنامجي الرئيسيالأثر على العدالة المجاليةالسند المرجعي
المرحلة الأولى (2005–2010)تدارك العجز الاجتماعي ومحاربة الهشاشة.دعم الولوج إلى الخدمات الأساسية والأنشطة المدرة للدخل.تقليص الفوارق في الولوج إلى الخدمات والبنية التحتية الأساسية.10
المرحلة الثانية (2011–2015)ترسيخ الحكامة المحلية واستدامة المشاريع.تعزيز الإدماج الاجتماعي والاقتصادي وتقوية القدرات المحلية التشاركية.وضع مقاربة تشاركية في التنمية المحلية وتعميق النجاعة.11
المرحلة الثالثة (2019–2025)الاستثمار في الرأسمال البشري والإدماج الاقتصادي للشباب.دعم صحة الأم والطفل، محاربة الهدر المدرسي، تعزيز ريادة الأعمال والإدماج في سلاسل القيمة.التركيز على الجوانب اللامادية للتنمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر الانتقائية والفعالية.22

6. الريادة الإقليمية والدبلوماسية الإفريقية (العمق الاستراتيجي)

إن التوجه الإفريقي يمثل البعد الجيوسياسي والاقتصادي الأبرز في مرحلة الريادة. فبعد سنوات من التركيز على الشمال، تبنى المغرب سياسة "التوجه جنوباً" لتعزيز التعاون جنوب-جنوب وتحقيق طموحاته الاقتصادية والسياسية.

6.1. استراتيجية العودة إلى الاتحاد الإفريقي (2017)

كان قرار العودة إلى الاتحاد الإفريقي في عام 2017، بعد غياب دام أكثر من ثلاثة عقود، تتويجاً لحراك دبلوماسي مكثف بقيادة العاهل المغربي، شمل زيارات وإبرام شراكات استراتيجية مع العديد من الدول الإفريقية.27 هذا القرار جاء في ظل شلل يصيب اتحاد المغرب العربي، مما جعل التوجه نحو إفريقيا ضرورة لتحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي.28

تستند السياسة الخارجية المغربية على مبادئ ثابتة تشمل احترام السيادة الوطنية، والتعاون والتضامن الموجه نحو الجنوب، والانفتاح على مختلف الفاعلين.27 وتمثل العودة إلى الاتحاد الإفريقي خطوة لتعزيز النفوذ الجيوسياسي للمملكة، ومحاولة لتعزيز موقفها في قضية وحدتها الترابية.29 هذه الواقعية البراغماتية في السياسة الخارجية هي السمة الضابطة لاستغلال الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية لتكثيف التعاون الإقليمي.27

6.2. الدبلوماسية الاقتصادية والتعاون جنوب-جنوب

لم يكن التوجه الإفريقي مجرد توسع دبلوماسي، بل كان محاولة لتعزيز الهامش الجيوسياسي والاقتصادي. يعمل المغرب على بلورة استراتيجيات إقليمية مندمجة، خاصة في مجالات الصحة والبحث وصناعة الأدوية، بهدف توحيد الجهود وتقوية سلاسل القيمة الإقليمية لمواجهة الأزمات العالمية.30

ومع ذلك، يواجه هذا التوجه تحديات كبيرة مرتبطة بالبيئة القارية، أبرزها الحالة المتردية للبنية التحتية في إفريقيا (الطرق والموانئ)، والتي تعيق التغيرات البنيوية وتحقيق النمو المستدام، وتكبد المصدرين المغاربة فرصاً كبيرة رغم قرب المسافة مقارنة بالدول الأوروبية.31 هذا التحدي يفسر جزئياً تركيز المغرب على تطوير بنيته التحتية الخاصة (طنجة المتوسط 2) لجعلها نقطة عبور لوجستية قادرة على خدمة العمق الإفريقي وتجاوز نقاط الضعف القارية. الريادة الإقليمية تعتمد إذن على الأدوات المادية والسياسية التي تم بناؤها وتأهيلها في مرحلة الحكمة.

7. الاستنتاجات العامة والآفاق المستقبلية

إن مسار القيادة من "الحكمة" إلى "الريادة" في المغرب يمثل عملية تحول هيكلي ومنهجي مستمرة على مدى ربع قرن. لقد أدت مرحلة الحكمة التأسيسية (1999–2010)، التي ركزت على المصالحة الداخلية، الإصلاح القانوني (مدونة الأسرة)، وبناء البنى التحتية الأساسية (INDH المرحلة الأولى، طنجة المتوسط 1)، إلى توفير قاعدة صلبة من الاستقرار والشرعية الداخلية. هذا الاستقرار كان شرطاً لا غنى عنه لإطلاق المرحلة الثانية، الريادة الاستراتيجية.

7.1. خلاصة مقارنة بين مكتسبات الحكمة ومتطلبات الريادة

يتضح التباين بين المرحلتين في الأهداف والمقاربات، مع وجود ترابط سببي عميق بينهما:

معيار المقارنةمرحلة الحكمة (1999–2010)مرحلة الريادة (2010–2025+)
الهدف الجوهريالتأسيس والإصلاح المؤسساتي والمصالحة التاريخية (التركيز الداخلي).التموضع الاستراتيجي والريادة الإقليمية والعدالة المجالية (التركيز المستقبلي).
محور الاهتمام الداخليتعزيز الديمقراطية التمثيلية، حقوق الإنسان (IER)، مدونة الأسرة.

الجهوية المتقدمة، تنمية الرأسمال البشري (INDH 3)، النزاهة والفعالية.16

المقاربة الاقتصاديةبناء البنى التحتية الأساسية (تأهيل الطرق، طنجة المتوسط 1).الاندماج في سلاسل القيمة العالمية، الريادة الطاقية (52% طاقة نظيفة).
التحول الدستوريالعمل ضمن إطار دستور 1996 المعدل.

إقرار دستور 2011، توطيد مبدأ فصل السلط ودسترة الجهوية.14

7.2. تقييم التحديات المتبقية ومحركات الاستدامة

التحليل يؤكد أن التحدي الأكبر للريادة يكمن في ضمان الالتقائية بين "السرعة الطويلة" للرؤية الاستراتيجية و"السرعة التنفيذية" للجهاز الحكومي والإداري. ففي الوقت الذي يتم فيه إطلاق مشاريع ضخمة ذات أفق زمني يمتد إلى 2030، يظل تحقيق النزاهة والفعالية في العمل الحكومي والبرلماني مطلباً أساسياً لضمان أن الخدمة لا تكون قائمة على "النية" فقط، بل على تحقيق "الفعالية" والنتائج الملموسة.16

إن استدامة الريادة الاقتصادية تتوقف على قدرة الدولة على الاستثمار بنجاح في الجوانب اللامادية للتنمية البشرية (مثل التعليم والصحة والطفولة المبكرة عبر INDH 3).22 فالريادة تتطلب رأسمال بشرياً مؤهلاً قادراً على المنافسة. كما أن ترسيخ الحكامة المجالية وتطبيق الجهوية المتقدمة بشكل فعال هما الضمانان الرئيسيان لتقليص التفاوتات المجالية، وتوفير بيئة اجتماعية مستقرة وداعمة للتقدم الوطني، بعيداً عن أي احتكاكات أو احتجاجات اجتماعية نابعة من التفاوت في توزيع ثمار التنمية.21

بالتالي، فإن المرحلة القادمة تتطلب تعزيز حكامة الاستثمارات لضمان استدامتها عبر الصيانة المنتظمة والعمل الفعال على المستوى الترابي، لتوحيد جهود القطاع العام والخاص والمجتمع المدني لتحقيق الالتقائية المنشودة.22 النجاح الخارجي في الريادة (طنجة المتوسط، الطاقة النظيفة) سيعتمد بشكل متزايد على النجاح في تحقيق الفعالية والعدالة الداخلية.

تعليقات