القائمة الرئيسية

الصفحات

أزمة تأطير الشباب في السياق المغربي: تشخيص الأسباب الهيكلية، وتحليل النتائج السياسية والاجتماعية والأمنية، واستراتيجيات إعادة الإدماج

 


أزمة تأطير الشباب في السياق المغربي: تشخيص الأسباب الهيكلية، وتحليل النتائج السياسية والاجتماعية والأمنية، واستراتيجيات إعادة الإدماج

يمثل الشباب الشريحة الأكثر حيوية في المجتمعات المغربية، وتؤكد الدراسات أن تأثير هذه الفئة على المشهد السياسي وصنع القرار لا يمكن إغفاله.1 ومع ذلك، تشهد البلاد ظاهرة متصاعدة تتمثل في تخلي المؤسسات التقليدية، لا سيما الأحزاب السياسية والقطاعات الوزارية الحكومية، عن وظيفتها الأساسية في "التأطير" (Framing and Integration). لا يقتصر التأطير على مجرد التنظيم، بل هو عملية منهجية تهدف إلى التوجيه، التكوين، الإدماج، وإشراك المواطنين في مسار القرارات والسياسات العمومية.2 إن الفراغ المؤسساتي الناتج عن هذا التقاعس المزدوج—الفشل في التأطير السياسي والاجتماعي التنموي—يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة على المسار الديمقراطي والتنموي والأمن القومي.

يستهدف هذا التقرير تحليل الأسباب الهيكلية الكامنة وراء تقاعس هذه المؤسسات، وتفكيك النتائج السياسية والاجتماعية والأمنية المترتبة على ذلك، ليخلص إلى تقديم مجموعة من التوصيات الاستراتيجية الموجهة نحو صانعي القرار لبلورة استراتيجيات فعالة لإعادة إدماج الشباب.


المحور الأول: الإطار المفاهيمي والتحول في وظيفة التأطير

1.1 مفهوم التأطير المؤسساتي: الوظيفة التنموية والسياسية المفقودة

التأطير المؤسساتي للشباب هو مهمة تتجاوز مجرد الدعوة للمشاركة؛ إنه عملية متكاملة تهدف إلى بناء القدرات وتأهيل الأجيال الجديدة لتحمل المسؤولية والمساهمة الفعالة في الحياة العامة. في السياق السياسي، يجب أن يشمل دور الأحزاب ثلاثة أبعاد رئيسية: البناء، الخدمة، والتوجيه.3 يتجسد

البناء في إتاحة دور بارز للشباب في الهياكل الداخلية للحزب وتعيينهم في مراكز قيادية. أما الخدمة فتعني معالجة هموم الشباب وشواغلهم من خلال السياسات والمنابر العامة، وإشراكهم في وضع رؤية لمستقبل البلاد.3 ويبقى

التوجيه هو الأهم، إذ يجب أن يثبت الحزب أن الشباب ليسوا مجرد مصدر للأصوات الانتخابية، بل هم ناشطون يجب مساعدتهم على تنظيم عملهم وتطوير مسيرتهم السياسية بناءً على نقاط قوتهم.3

أما على المستوى الاجتماعي والتنموي، فيمثل التأطير الاجتماعي مهمة للقطاعات الوزارية المعنية (التعليم، الشباب، التكوين المهني) لتوفير البنى التحتية، فرص التعليم الجيد، والتكوين المهني، وتوفير الوعي السياسي المبكر.1 إن غياب هذه البنيات التنظيمية والإدارية التي تتكلف بتنظيم وتدبير عمليات التشاور مع المواطنين والجمعيات في مسلسلات القرار والسياسات 2، يؤدي إلى إحداث فراغ تنموي يلقي بظلاله على كل أشكال الإدماج.

1.2 تشخيص أزمة الثقة: تفكك العلاقة بين الشباب والمؤسسات التقليدية

تعد أزمة الثقة هي النتيجة المباشرة لتخلي المؤسسات عن مهامها التأطيرية. تشير الدراسات إلى أن الشباب يعبرون عن مستويات منخفضة جداً من الثقة حيال المؤسسات السياسية، خاصة الأحزاب.5 هذا النقص العميق في الثقة ليس مجرد شعور عابر، بل يؤثر بشكل مباشر وحاسم على قرار الشباب بالمشاركة في الانتخابات والعملية السياسية برمتها.1

إن التصورات السلبية لدى الشباب تجاه النخب السياسية تغذي هذه الأزمة. فالشباب ينتقدون النخب لفشلها في فهم ما يقلقهم، ولأنها لا تعنى برفاهية الناس، بل تمارس الفساد وترفض إشراكهم بفعالية.5 يعبر أحد المشاركين في دراسة نوعية بأن تصوره عن الأحزاب السياسية يختزل في "النفاق والخداع والكذب وازدواجية المعايير".5 ويزداد هذا الانطباع سوءاً بسبب هيمنة الفساد والمحاباة والمحسوبية، وهي مظاهر متكررة تعزز الشعور بأن النظام السياسي لم يتغير على مر السنين.5 وعليه، فإن فقدان القيمة الأخلاقية للأحزاب يمثل بداية لسلسلة من الأسباب تؤدي إلى ضعف الثقة في المؤسسات ككل (البرلمان والحكومة)، ويستنتج الشباب أن المشاركة السياسية لا جدوى منها، مما يترتب عليه عزوف شامل. هذا يوضح أن الأزمة لم تعد مجرد أزمة آليات، بل هي أزمة في

شرعية وجود هذه المؤسسات كوسيط تمثيلي.


المحور الثاني: مظاهر التقاعس المؤسساتي للأحزاب وقطاعات الرعاية

تتجلى مظاهر التقاعس في فشل مزدوج؛ داخلي يتعلق بهياكل الأحزاب، وخارجي يتعلق بقطاعات التنشئة الاجتماعية والتعليمية.

2.1 أزمة الهيكل الحزبي: غياب الديمقراطية الداخلية والتشبيب الشكلي

تعيش الأحزاب السياسية أزمة ديمقراطية حقيقية ضمن هياكلها الداخلية وطريقة اشتغالها.1 يسود داخل هذه البنيات انغلاق تنظيمي وسيطرة للنخب التقليدية، مما يعمق من البيروقراطية الحزبية.1 إن غياب الديمقراطية الداخلية يمثل حاجزاً أمام دوران النخب وتجديدها 7، مما يعني استمرار سيطرة القيادات القديمة وعدم إتاحة مسار حقيقي للصعود السياسي للشباب.

على الرغم من أن المشرع حاول تدارك هذا الخلل، حيث ينص قانون الأحزاب (11.29) على ضرورة عمل كل حزب على تعميم مشاركة الشباب وتحديد نسبتهم الواجب إشراكهم في الأجهزة المسيرة 8، إلا أن الواقع يشير إلى أن الحديث عن التشبيب يتم دون تفعيله بالشكل الذي يعطي القيمة الحقيقية للشباب في عجلة التنمية السياسية.8 وهذا ما يكرس "التشبيب الشكلي" بدلاً من التداول الفعلي للسلطة بين الأجيال.8 إن هيمنة البيروقراطية الحزبية أدت إلى ضعف التكوين والكفاءة لدى الكوادر الجديدة، واستمرار النخبوية والفساد، وبالتالي عدم القدرة على صياغة برامج واقعية وملموسة يمكن أن تجذب الشباب.5 ونتيجة لذلك، تحولت الأحزاب إلى مجرد آلة انتخابية تسعى لتأمين الأصوات في أوقات محددة، بدلاً من كونها قوى سياسية فاعلة تهتم بإشراك الجمهور بشكل مستمر.5

2.2 فشل التنشئة السياسية والتعليمية: إفراز "الشباب غير المؤهل"

إن الإخفاق في التأطير لا يقتصر على الأحزاب، بل يمتد إلى مؤسسات التنشئة السياسية والتعليمية. يمكن ربط عدم ميل الشباب للمشاركة السياسية بغياب وعي سياسي يشجع على الانخراط في سن مبكرة، بالإضافة إلى فشل مؤسسات التنشئة السياسية في توجيههم.1

ويعد القطاع التعليمي محورياً في هذه الأزمة. إذ على الرغم من الجهود المبذولة، لا تزال جودة التعليم تعاني من تحديات كبيرة.9 فالمناهج الدراسية، في العديد من الأحيان، لا تواكب التغيرات العالمية ولا تتناول القضايا الاجتماعية والاقتصادية بما يتناسب مع احتياجات الشباب.9 وهذا القصور المعرفي يؤدي إلى "تهميش معرفي"، حيث يشعر العديد من الشباب بالعزلة بسبب عدم توفر فرص التعليم الجيد الذي يفتح أمامهم آفاق الحياة والعمل.9 إضافة إلى ذلك، تعاني قطاعات رعاية الشباب من قصور في توفير برامج التوجيه المهني والدعم لرواد الأعمال وتسهيل الولوج إلى المعلومة.4 إن هذا الفشل في تأطير الشباب اقتصادياً ومعرفياً يولد فئة كبيرة من الشباب في وضعية خمول (NEETs) 10، ويقلل من قدرتهم على التمييز النقدي، مما يجعلهم عرضة بشكل متزايد للتأثيرات الخارجية.9


المحور الثالث: النتائج والآثار السياسية: تهديد المسار الديمقراطي

يشكل الفراغ التأطيري تهديداً مباشراً للعملية الديمقراطية، حيث يتمظهر هذا التهديد في تآكل التمثيلية وصعود آليات التعبير غير المؤسساتية.

3.1 ظاهرة العزوف الانتخابي وتآكل التمثيلية

إن ظاهرة الامتناع عن المشاركة السياسية، وخصوصاً الانتخابية، تمثل قضية ذات تأثيرات خطيرة على المسار الديمقراطي والتنموي.1 يمثل الشباب (18-34 سنة) أكثر من 40% من الساكنة الراشدة التي يحق لها التسجيل في اللوائح الانتخابية، لكنهم يشكلون الفئة الأقل تسجيلاً ومشاركة.1

يظهر تحليل الإحصائيات علاقة طردية واضحة بين السن ومستوى المشاركة؛ فكلما ارتفع سن الفرد، ارتفع ميله إلى المشاركة الانتخابية. تبلغ نسبة التسجيل في اللوائح الانتخابية للفئة العمرية 60 سنة فما فوق 94.4%، بينما لا تتجاوز 33.6% للفئة الشابة ما بين 18 و 24 سنة.1 هذا التباين الحاد يعني أن القرار السياسي والتمثيل التشريعي يتشكل بشكل متزايد من خلال تمثيل الفئات الأكبر سناً، مما يؤدي إلى إقصاء قضايا الشباب من الأجندة التشريعية والسياسات العامة.

الجدول التالي يوضح مستويات العزوف السياسي حسب الفئة العمرية:

مستويات العزوف السياسي حسب الفئة العمرية (المغرب)

الفئة العمرية (بالسنوات)نسبة التسجيل في اللوائح الانتخابيةدلالة النسبة في سياق التأطيرالمصادر (ID)
18 – 2433.6%الفئة الأقل مشاركة والأكثر عزوفاً.1
25 – 3457.1%تحسن طفيف مع التقدم في السن، لكن لا يزال دون المتوسط.1
45 – 5485.1%ارتفاع كبير في المشاركة.1
60 سنة فما فوق94.4%أعلى معدلات المشاركة والارتباط التقليدي.1

تجدر الإشارة إلى أن هذا العزوف ليس بالضرورة ناتجاً عن لامبالاة، بل يمكن تفسيره كـ "فعل سياسي سلبي". فالشباب المتعلم تحديداً يفقد الثقة في النظام السياسي ويكون الأكثر عزوفاً، حيث يمثل امتناعهم ضغطاً سياسياً وتعبيرة عن رفضهم للسياسات العمومية المعتمدة.1 هذا يشير إلى أن الشباب قد طوروا درجة من الوعي السياسي لكنهم يرفضون القنوات المتاحة للتمثيل.

3.2 الشارع كبديل للصندوق: صعود الحركات الاحتجاجية غير المؤطرة

في ظل فشل التأطير الحزبي في التوجيه 3، وعدم رؤية الشباب لأثر أصواتهم، يميل الشباب أكثر للاحتجاج والعمل الجمعوي كبديل عن اهتمامهم بالتصويت في العمليات الانتخابية.1 لقد تحول الاحتجاج في المغرب من مجرد فعل دوري إلى حركة دائمة ومتواترة في الزمان والمكان، متجاوزة الأطر التقليدية للعمل النقابي أو الحزبي.11

لقد أدت هذه الدينامية الجديدة إلى بروز حركات احتجاجية شبابية، مثل حركة 20 فبراير وحركات "جيل Z"، التي تستعمل الفضاء الرقمي أداة للتعبئة وللتعبير عن مطالبها المشروعة.12 لقد أثبتت هذه الحركات قوة "الشارع الناعمة" في إحداث التغيير 11، مما يمثل تحريراً للفضاء العام من احتكار المؤسسات الوسيطة. ومع ذلك، ورغم نجاح هذا البديل الاحتجاجي في إثارة القضايا وإحداث ضغط سياسي، فإنه يعاني من هشاشة هيكلية.13 الافتقار إلى التأطير التقليدي والاستدامة والبنية التنظيمية القوية يمنع هذه الحركات من التحول إلى قوة سياسية فاعلة ومستمرة قادرة على ضمان إصلاحات مؤسساتية عميقة ومستدامة، مما يجعل النظام السياسي يكتفي بتقديم استجابات سريعة بدلاً من معالجة الجذور.

3.3 تدهور جودة الحكامة والتمثيل البرلماني

يعكس العزوف الشبابي انخفاضاً حاداً في الثقة تجاه المؤسسة البرلمانية. ينظر الشباب إلى البرلمان على أنه "مؤسسة فاشلة" لا تستطيع القيام بشيء لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الملحة.5 هذه الصورة النمطية السلبية ناتجة عن تراكمات تاريخية، وتفاقمت بسبب سلوكيات البرلمانيين (كالعنف اللفظي، وظاهرة التوريث البرلماني، والمحسوبية).1

إن غياب التأطير الفعال للكوادر يساهم في هيمنة النخب التقليدية 6، ويفقد المؤسسة التشريعية قدرتها على المساءلة. ويزداد الوضع تعقيداً مع هيمنة أغلبية قوية يقابلها حضور معارضة ضعيفة بلا قوة تأثيرية، مما يقلص من دور البرلمان في مراقبة عمل الحكومة ويؤدي إلى تراجع مستوى الثقة.1


المحور الرابع: التبعات الاجتماعية والاقتصادية: بناء بيئة خصبة للإقصاء

إن فشل التأطير ينتج عنه بشكل مباشر إقصاء اجتماعي واقتصادي يطال الفئة الشابة، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي العام.

4.1 البطالة والفقر: عوامل الإحباط والانعزال

تعد البطالة والفقر تحديات اجتماعية كبرى تؤثر بشكل مباشر على الشباب.9 تبلغ نسبة البطالة في صفوف الشباب المغربي حوالي 30%.9 هذه النسبة المرتفعة من الشباب العاطل أو الباحث عن عمل تمثل إحدى القضايا الجوهرية الثلاث التي تشغل الشباب وينتظرون مقترحات وتجاوباً بشأنها، إلى جانب إصلاح التعليم والحد من الفساد.5

إن الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الفشل التنموي تزيد من مشاعر الإحباط والانعزال لدى الشباب. عندما تفشل السياسات الحكومية في تقديم حلول لمشاكل المجتمع، يصبح اهتمام الشباب منصباً على البحث عن سبل تحقيق العيش الكريم، ويرون أن الانخراط السياسي لا طائل منه.1 ويُسلط تقرير البنك الدولي الضوء على ظاهرة "الخمول" (NEETs)، مشيراً إلى أن ما يعادل نصف الشباب (15-29 سنة) يفتقر إما لعمل أو لمقعد دراسي 10، مما يؤكد أن الفشل في التأطير ينتج أزمة هيكلية في الإدماج الاقتصادي. إن هذا الفشل في التأطير التنموي يولد "الفقر المعرفي" الذي يقلل من قدرة الشباب على التفكير النقدي، مما يجعلهم "بيئة خصبة" للجماعات المتطرفة.

4.2 تحديات القطاع التعليمي والتهميش المعرفي

يساهم ضعف التعليم بشكل فعال في تهميش الشباب وعرضته للتطرف. يعد التعليم من أبرز العوامل المؤثرة في تشكيل عقلية الأفراد، وهو أداة أساسية في مكافحة التطرف.9 ومع ذلك، تظل نسبة الأمية مرتفعة، خاصة في المناطق الريفية والمهمشة، مما يعزز العزلة والتهميش.9

إن الشباب الذين يعانون من ضعف في التعليم هم أكثر عرضة للانخراط في الأنشطة المتطرفة.9 أكدت الدراسات أن التطرف لا يقتصر على الفئات العاطلة عن العمل فقط، بل يشمل أيضاً الشباب الذي لم يحصل على تعليم يواكب العصر.9 هذا الفراغ المعرفي والهيكلي يجعل هذه الفئة عرضة للانضمام إلى الجماعات المتطرفة التي تستغل الظروف الاجتماعية لإقناعهم بفكرها.9


المحور الخامس: الآثار الأمنية والاستراتيجية: التطرف والهجرة كـ "صمامات هروب"

تتحول التبعات الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على فشل التأطير إلى تهديدات استراتيجية تمس الأمن القومي والاستقرار الاجتماعي، متمثلة في التطرف والهجرة غير النظامية.

5.1 التطرف والإرهاب: استغلال الفراغ التأطيري والأمني

يعد التطرف نتيجة مباشرة وخطيرة لفشل الإدماج والتأطير الاجتماعي والاقتصادي. إن محاربة الإرهاب تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الإجراءات الأمنية التقليدية.9 فالتحديات التي يواجهها الشباب من بطالة وفقر وأمية وقلة فرص التعليم الجيد تساهم مباشرة في نمو ظواهر التطرف.9

إن الإحباط الناتج عن البطالة والتهميش يزيد من قابلية الشباب لتبني الفكر المتطرف.9 وتستغل الجماعات المتطرفة هذا الفراغ لتقديم بدائل فكرية أو مادية للشباب المغبونين.9 يزداد الوضع تعقيداً في المناطق النائية والمحرومة حيث تندر فرص العمل والتدريب المهني وتضعف البنية التحتية التعليمية والصحية.9 هذا التحليل يضع التأطير الفعال (توفير آفاق اقتصادية وتعليمية) في صلب الاستراتيجيات الأمنية، كونه خط الدفاع الأول والأكثر كفاءة ضد هذه التهديدات.

5.2 تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية (الهجرة السرية)

تمثل الهجرة غير النظامية شكلاً آخر من أشكال "الهروب" الناتج عن الإقصاء. الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة متعددة، وتشمل البطالة والإقصاء الاجتماعي، وضعف الآفاق المستقبلية، والشعور بالإحباط.15

إن المقاربات التي تقتصر على الجانب الأمني لإحباط محاولات الهجرة السرية لا تعالج الأسباب الجذرية للظاهرة.15 فالشباب يقررون الهجرة غير النظامية نتيجة فقدان الأمل في الوطن، مما يتطلب مقاربة تنموية واجتماعية توفر بدائل حقيقية ومستدامة.15 وقد طرحت بعض التقارير الحقوقية مقترحات عملية، مثل منح الشباب "تأشيرات موسمية"، في محاولة لتقديم حلول في ظل الفراغ المؤسساتي الرسمي الذي فشل في توفير الإدماج.15

5.3 تدهور الاندماج الاجتماعي والوقاية من انحراف الأحداث

كما يترك فشل التأطير بصماته على مرحلة الطفولة والمراهقة المبكرة، مما يؤدي إلى مشكلة انحراف الأحداث التي تعتبر من أخطر المشاكل الاجتماعية وتتطلب مقاربة معقدة ومتداخلة.16 إن غياب الرعاية اللاحقة وتدهور الاندماج الاجتماعي يفاقم من مشكلة العود للانحراف بين الأحداث الجانحين.16

إن الفشل في تأطير هذه الفئة يتطلب تدخلاً عاجلاً، بما في ذلك تعيين أخصائيين في علم النفس وتفعيل الرعاية اللاحقة وتعميمها للوقاية من العود للانحراف.16 كما أن تأطير الزيارات العائلية للأحداث الجانحين داخل المؤسسات الإصلاحية يعد أمراً ضرورياً لإشراك الأسر في عملية إعادة تربية هذه الفئة.16 وهذا يؤكد أن التبعات الأمنية طويلة المدى تبدأ من الفشل في التأطير المؤسساتي في المراحل العمرية المبكرة.


المحور السادس: المجتمع المدني كفضاء بديل: الإمكانات والتحديات

في ظل تقاعس الأحزاب والقطاعات الحكومية عن التأطير، برز المجتمع المدني كفضاء بديل وملاذ للشباب الطامح للمشاركة.

6.1 صعود المجتمع المدني كمتنفس للشباب

يؤكد النشاط المتزايد للشباب داخل هيئات المجتمع المدني أنهم يمتلكون طاقة هائلة ورغبة في المشاركة. فالعمل الجمعوي يتيح لهم فرصة المشاركة في الحياة العامة والمشاركة المواطنة محلياً وجهوياً ووطنياً.17 إن الجمعيات تشكل منصات تمكن الشباب من التعبير والتفاعل بعيداً عن التعقيدات والبيروقراطية التي تسود الأحزاب.18

وقد أظهر المجتمع المدني قدرة ملحوظة على ملء جزء من الفراغ في التأطير. ففي مناطق الأزمات، كما حدث بعد زلزال الحوز، نجحت مبادرات المجتمع المدني في مواكبة وتكوين وتأطير الشباب، مما يظهر أن "البوتونسيال" والكفاءات موجودة وتحتاج فقط إلى الاهتمام.4 وتقدم وزارة الشباب والثقافة والاتصال الدعم لهذه الجمعيات إدراكاً لأهمية الشراكة، سواء من خلال دعوات المشاريع أو توفير الموارد المادية والبنيات الأساسية كدور الشباب.

لكن التراجع الخطير لدور الشباب عن دورها أحدثت فراغا مؤسساتيا  بات معه  استدعاء  المؤسسة للعودة لدورها المعهود في المواكبة والتأطير.

6.2 القيود الهيكلية التي تحد من فعالية البديل المدني

على الرغم من الدور الحيوي الذي يلعبه المجتمع المدني، فإن هشاشته المالية والهيكلية تمنعه من أن يصبح بديلاً مستداماً وقوياً قادراً على سد الفراغ المؤسساتي الهائل.

تتعرض منظمات المجتمع المدني في المغرب لتقلبات مستمرة في التمويل نتيجة للتغيير في أولويات المانحين الدوليين.19 وتشكل الاستدامة المالية مصدر قلق رئيسي لمعظم هذه المنظمات بسبب الافتقار إلى آليات تمويل ملائمة ومرنة ومبتكرة.19 إن اعتماد الجمعيات على تمويل المانحين يخلق اختلالاً في موازين القوى، ويسهم في تدهور فعالية هذه المنظمات في مواجهة تحديات التنمية المعقدة.19

بالإضافة إلى التمويل، تحتاج الجمعيات إلى تطوير أدائها المدني، بما في ذلك التأهيل والتكوين والاحترافية، واستيعاب للمتغيرات لتكون مؤهلة لاحتضان الطاقات الشبابية.18 إن هشاشة المجتمع المدني تحول دون قدرته على التحول إلى قوة دفع مستدامة للتنمية والإدماج، مما يعني أن الفراغ التأطيري يستمر على المستوى الوطني. وعليه، فإن الدولة مطالبة بتبني سياسة "تأطير التأطير"، أي توفير الدعم الهيكلي والتمويل المستدام للجمعيات، لتمكينها من القيام بدورها الاستراتيجي في الإدماج والمشاركة المواطنة.


المحور السابع: الآفاق الاستراتيجية والتوصيات نحو إعادة بناء التأطير

إن معالجة النتائج الخطيرة المترتبة على التخلي عن تأطير الشباب تتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تتزامن فيها الإصلاحات السياسية مع التدخلات التنموية والاجتماعية. يجب على صانعي القرار تبني استراتيجيات إجرائية محددة تستهدف إعادة بناء الثقة وإدماج الشباب بشكل فعال.

7.1 إعادة تأهيل الأحزاب السياسية واستعادة الثقة

يجب إلزام الأحزاب السياسية بإجراء إصلاحات هيكلية داخلية جذرية لاستعادة قيمتها الأخلاقية وثقة الجمهور.5

  1. تفعيل الديمقراطية الداخلية والتشبيب الحقيقي: يجب ضمان التداول الحقيقي للمسؤوليات بين الأجيال 8، وتعزيز الديمقراطية الداخلية في هياكل الأحزاب.6 يجب أن يتجاوز مفهوم التشبيب كونه مجرد حديث شكلي ليصبح تفعيلاً واقعياً يرتكز على الكفاءة والتكوين.8

  2. تحويل أجنحة الشباب إلى مراكز قرار: يجب تخصيص موارد كافية لدعم أنشطة أجنحة الشباب وتعيينهم في مراكز قيادية، وإشراكهم في عمليات صنع القرار، للتأكيد على أنهم ليسوا مجرد مصدر للأصوات الانتخابية.3

  3. محاربة الفساد: يجب على الأحزاب أن تتحلى بالأخلاق والقيم، ومعالجة المظاهر السلبية المرتبطة بالفساد والمحاباة والمحسوبية، التي تعد تحديات جوهرية تقلل من ثقة الشباب في جدوى الإصلاحات.5

7.2 استراتيجيات الإدماج الاجتماعي والاقتصادي الشامل

إن معالجة البطالة وضعف التعليم تشكل خط الدفاع الأول ضد التطرف والهجرة.

  1. إصلاح التعليم كمحور لمكافحة التطرف: يتطلب الأمر معالجة تحديات جودة التعليم وملاءمة المناهج الدراسية مع احتياجات العصر وسوق العمل.5 يجب العمل على الحد من الأمية، لا سيما في المناطق الريفية والمهمشة، لتقليل عرضة الشباب للانخراط في الأنشطة المتطرفة.9

  2. برامج موجهة لمواجهة البطالة والخمول (NEETs): نظراً لنسبة البطالة المرتفعة (30%) 9، يجب وضع سياسات تستهدف تسهيل الولوج إلى المعلومة، وتوفير التوجيه المهني، وتقديم الدعم المالي لرواد الأعمال، خصوصاً في المناطق التي تتوفر فيها إمكانات ثقافية أو سياحية.4

7.3 بناء شراكة مستدامة مع المجتمع المدني

يجب النظر إلى المجتمع المدني كشريك استراتيجي في عملية التأطير، وتوفير الدعم الهيكلي اللازم لضمان استدامته.

  1. تأمين الاستدامة المالية للجمعيات: يجب العمل على توفير آليات تمويل وطنية ملائمة ومرنة ومبتكرة للمجتمع المدني، بدلاً من الاعتماد على تقلبات تمويل المانحين الدوليين.19

  2. تفعيل آليات المشاركة المواطنة: دعم البنيات التنظيمية والإدارية المحلية والجهوية التي تتيح للجمعيات المشاركة في مسلسلات القرار والسياسات والميزانيات العمومية، من خلال آليات الإنصات العمومي وتلقي المقترحات.2


مصفوفة الأسباب والآثار المترتبة على فشل التأطير

توضح المصفوفة التالية العلاقة المنهجية بين تقاعس المؤسسات عن وظيفة التأطير وبين النتائج السلبية المترتبة على المستويات السياسية، الاجتماعية، والأمنية.

مصفوفة الأسباب والآثار المترتبة على فشل التأطير

المؤسسة المتقاعسةمظاهر التقاعس (الفشل في التأطير)النتائج السياسية المباشرةالآثار الاجتماعية والأمنية (التهديدات الاستراتيجية)المصادر (ID)
الأحزاب السياسيةغياب الديمقراطية الداخلية؛ سيطرة النخب؛ الفساد المؤسساتي.العزوف الانتخابي (33.6% مشاركة لـ 18-24 سنة)؛ تآكل شرعية البرلمان.هيمنة الخطاب الشعبوي؛ فقدان الشباب للثقة في الإصلاحات.1
قطاعات التعليم والرعايةضعف جودة التعليم؛ ارتفاع الأمية؛ عدم ملاءمة المناهج.تفضيل الشارع والاحتجاج كآلية تعبير سياسي (جيل Z).ارتفاع البطالة (30%)؛ القابلية للتطرف والإرهاب (إيجاد بيئة خصبة).9
المنظومة الاقتصاديةارتفاع معدلات البطالة؛ انتشار ظاهرة الخمول (NEETs).انخفاض الثقة في قدرة الحكومة على حل المشكلات.تفاقم الهجرة غير النظامية (الهجرة السرية)؛ انحراف الأحداث وزيادة الإقصاء.10

الخلاصة

يشير التحليل المعمق إلى أن أزمة تأطير الشباب هي في جوهرها أزمة نموذج تنموي وسياسي فشل في توفير فرص الإدماج والتمثيل الفعال للفئة الأكثر حيوية في المجتمع. العواقب المترتبة على هذا الفشل المزدوج—في التأطير السياسي والتنموي—ليست مجرد تحديات هامشية، بل تهديدات استراتيجية للاستقرار والأمن. فالعزوف الانتخابي يمثل فعلاً سياسياً سلبياً يعكس رفض الشباب لآليات التمثيل الحالية، بينما يعد التطرف والهجرة السرية أعراضاً مباشرة لفشل التأطير الاجتماعي والاقتصادي، وليسا مشكلات أمنية أو حدودية بحتة.

يتطلب الخروج من هذه الأزمة إعادة بناء الثقة عبر ثلاثة مسارات متوازية ومترابطة: أولها، إصلاح الأحزاب السياسية بفرض الديمقراطية الداخلية والتشبيب الفعلي. وثانيها، تبني استراتيجيات إدماج اقتصادي واجتماعي تعالج الأسباب الجذرية للبطالة وضعف التعليم. وثالثها، تقوية المجتمع المدني كبديل ضروري وفاعل، وذلك من خلال توفير الدعم الهيكلي لتمكينه من لعب دور مستدام في عملية الإدماج والمشاركة المواطنة. إن معالجة أزمة التأطير هي استثمار حاسم في استدامة المسار الديمقراطي والتنموي.

تعليقات