القائمة الرئيسية

الصفحات

تفكيك تحولات موازين القوى العالمية في القرن الحادي والعشرين: الأبعاد الجيوبوليتيكية والاقتصادية والتكنولوجية يمثل القرن الحادي

 


يمثل القرن الحادي والعشرون مرحلة تحول بنيوي عميق في النظام الدولي، تتجاوز مجرد التغيرات الدورية في العلاقات بين الدول. إن فهم طبيعة هذه التحولات، التي تؤثر في توزيع القوة ومواردها بين الأقطاب التقليدية والقوى الصاعدة، يعد حجر الزاوية لأي تحليل استراتيجي يهدف إلى تكييف السياسات الوطنية مع البيئة العالمية المتغيرة. وتتسم هذه الفترة الانتقالية بالتعقيد وعدم اليقين، إذ تجمع بين انتقال القوة صعوداً وتبدُّدها انتشاراً، مما يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية والتقنية في آن واحد.

الباب الأول: الإطار المفاهيمي والتحولات النظامية الكبرى

1.1. التعريف المنهجي لـ "تحولات موازين القوى العالمية"

يمكن تعريف تحولات موازين القوى في السياق الراهن بأنها عملية مزدوجة، لا تقتصر على انتقال القوة (Power Transition) من مركز مهيمن إلى آخر منافس فحسب، بل تشمل أيضاً تبدد القوة (Power Diffusion). فبينما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يجمعان في مرحلة سابقة من التاريخ على مقومات القوة بحيث تتفوقان على بقية دول العالم مجتمعة، تشهد المرحلة الحالية تراجعاً تدريجياً ومستمراً في الفوارق في توزيع القدرات.1

إن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية حتمية وطبيعية.2 فبعد مرحلة "الأحادية القطبية النسبية" التي سادت عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، يتجه العالم تدريجياً نحو التعددية القطبية التنافسية.3 ولكن هذه التعددية ليست حالة من الاستقرار المضمون؛ بل هي غالباً ما توصف بأنها حالة من "الفوضى النظامية"، حيث إن سياسة التوازن الدولي التي انتكست بنهاية الحرب الباردة، قد ساقت العالم في كثير من الأزمات والحروب، مما يجعل وجود قوى موازية ضرورياً للتخفيف من حدة الأزمات.4

وقد توسع المفهوم التقليدي للقوة ليتجاوز الأبعاد العسكرية والاقتصادية المعهودة. لم تعد القوة تُقاس فقط بالقوة الصلبة التقليدية (الجيوش والدبابات)، بل أصبحت تقاس بالقدرة على التحكم في الفضاءات الجديدة. ومن أبرز التطورات المفهومية في هذا الصدد هو تحول الفضاء الخارجي إلى "جبهة خامسة" حاسمة تتنافس فيها الدول الطامحة إلى التفوق العسكري، مضيفاً تحدياً جديداً للأبعاد الأربعة التقليدية (الأرض والبحر والجو والفضاء السيبراني).6 كما أصبح الأمن السيبراني عنصراً مركزياً في ضمان الأمن القومي والسيادة الرقمية، ويعد أداة سياسية واستراتيجية تستخدمها الدول لفرض الهيمنة أو شن الحروب غير المرئية.7

وفي ضوء هذه التغيرات الجذرية، ظهرت تحليلات تشير إلى أن التقلبات الهائلة في طبيعة القوة وتوزيعها، إضافة إلى التغيرات في التقنيات الموجودة في التنظيم والبناء السياسي، قد تُنبئ بـ "نهاية النظرية" لصالح نماذج تفكير أكثر عملية.2 هذه السرعة في التحولات، خاصة بفعل التكنولوجيا، تجعل النماذج النظرية التقليدية (سواء الواقعية أو الليبرالية) عاجزة عن تفسير المشهد بشكل كامل، مما يزيد من صعوبة التخطيط الاستراتيجي للدول.

ويكمن تحدٍ استراتيجي آخر في فهم العلاقة بين التوازن والاستقرار. فبينما كان يُعتقد أن توازن القوة بين الدول الكبرى يضمن الأمن والاستقرار، تشير نظريات تحول القوة إلى أن ارتباط المكنات المتوازنة قد يؤدي على العكس إلى نشوب حرب.8 إن التعددية القطبية الراهنة، التي تتسم بتنافس استراتيجي يشمل جميع الميادين السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بين القوى المراجِعة مثل الصين وروسيا والقوى التقليدية 3، ترفع من مستوى عدم اليقين العالمي، مما يجعل البيئة الدولية أكثر عرضة للصراع.

لقد لخصت هذه التحولات البنيوية في توزيع القوة والموارد وأدوات التأثير من نظام يعتمد على التفوق الأحادي إلى نظام أكثر تبايناً وتنافساً، كما يوضح الجدول التالي:

الجدول 1: تحول النظم العالمية ومظاهر القوة في القرن 21

المحورالنظام القديم (ما بعد الحرب الباردة)النظام الجديد (التعددية التنافسية)الاستدلال الاستراتيجي
الأقطاب الجيوبوليتيكيةالأحادية القطبية (هيمنة أمريكية نسبية)نظام متعدد الأقطاب أو الأقطاب (US/China/Russia)

تراجع المركزية الأمريكية وصعود قوى مراجعة.1

أساس القوة الاقتصاديةالناتج المحلي الإجمالي الاسمي، التجارة الحرة، سيطرة مجموعة السبع.تزايد حصة الجنوب العالمي، وتكتلات منافسة (BRICS)، ومؤشرات التنويع.

تحدي لمؤسسات بريتون وودز وتفتيت النفوذ الاقتصادي.1

جبهات التنافس الرئيسيةالقوة الصلبة (الجيش التقليدي)، الطاقة الهيدروكربونية.التكنولوجيا (AI, Cyber, Space)، المعادن النادرة، وسلاسل الإمداد.

عسكرة التكنولوجيا وتحول الاقتصاد إلى أداة جيوسياسية.6

مصير العملة الاحتياطيةالهيمنة المطلقة للدولار الأمريكي كنظام مالي عالمي.استراتيجيات التخلي عن الدولرة وتنويع الاحتياطيات.

ظهور نظام مالي بديل يقلل من نفوذ المؤسسات الغربية.10

1.2. تراجع المركزية الأمريكية وصعود قوى المراجعة

شهد مطلع القرن الحادي والعشرين علامات واضحة لتراجع النفوذ والهيمنة الأمريكية، التي غالباً ما يشار إليها بـ "نهاية المركزية الأميركية".2 هذا التآكل في الهيمنة لا يعني "أفول أمريكا" بقدر ما يشير إلى تعدُّد مراكز القوة وانبثاثها عالمياً.1 وقد تجلى هذا التراجع في فشل أدوات القوة الناعمة الأمريكية، حيث انتقدت السياسة الأمريكية لاتباعها نهج التهديد، والتوعد، وفرض العقوبات، وإرسال الجنود، بدلاً من ممارسة "فن الإقناع".16 هذه المقاربة أضعفت قدرة واشنطن على الضغط وأدت إلى تغييرات كبرى في النظام الدولي لم يشهد لها مثيل منذ قرن.16

في المقابل، برزت قوى مراجِعة تسعى لتغيير قواعد اللعبة. يمثل الصعود الصيني التحدي البنيوي الأبرز، مدعوماً بنهوض اقتصادي وتقني متنامٍ وسريع.17 لقد تمكنت الصين من تجاوز أربع قوى اقتصادية كبرى (اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) لتصبح ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم.1 هذا النمو، خاصة في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية، يؤهلها للعب دور فعال في النظام الدولي، ويهدد الأحادية القطبية، دافعاً العالم نحو نظام متعدد الأقطاب.17

أما روسيا، فقد عادت تحت قيادة فلاديمير بوتين لمراجعة نظام ما بعد الحرب الباردة، ولاسيما بعد الأزمة الروسية الأوكرانية، مما أسفر عملياً عن ظهور نظام دولي ثلاثي الأقطاب يضم الولايات المتحدة والصين وروسيا.9 ويضاف إلى ذلك تراجع الدور الأوروبي، الذي يظهر من خلال التغيرات في منظومة الاتحاد الأوروبي (مثل انسحاب بريطانيا) وتضاؤل دور القارة سياسياً وعسكرياً على رقعة الشطرنج العالمية.2

في ظل هذه التحولات، تبنت القوى التقليدية (وعلى رأسها الولايات المتحدة) استراتيجية أكثر شمولاً تُعرف بـ "القوة الذكية" (Smart Power)، والتي أدرك فيها منظروها أن الاعتماد على القوة الناعمة منفردة لم يعد كافياً. هذا المفهوم يجمع بين الصلابة والنعومة، أي بين الردع العسكري والاقتصادي من جهة، والتأثير الثقافي والإعلامي والدبلوماسي من جهة أخرى.19 وهذا التحول في الاستراتيجية يؤكد أن المنافسة المستقبلية ستكون شاملة وتتطلب أدوات متعددة، مما يزيد من صعوبة التموضع للدول التي تعتمد على قطب واحد.

في المقابل، أفسح تراجع نفوذ القوى التقليدية المجال أمام صعود القوى المتوسطة وتزايد دورها. فقد برزت قوى إقليمية ناشئة، خاصة في آسيا، مثل الهند والبرازيل وكوريا الجنوبية.1 وتعتبر الهند مؤهلة لتحقيق التوازن الدولي والتخفيف من حدة الأزمات العالمية.4 فمع ضعف قدرة القوى الغربية على إدارة ملفات التوازنات الدولية وتزايد الانقسام داخلها 4، تظهر مساحة جيوسياسية أكبر لـ "دبلوماسية القوى المتوسطة" (Middle Power Diplomacy).20 وهذه القوى تستخدم تكتلات مثل مجموعة "بريكس" كساحة لطرح رؤى قوى الجنوب المتوسطة، مما يزيد من أهمية هذه الدول في حسابات الشركاء الكبار.20

لإضفاء الطابع الكمي على هذا التحول الاقتصادي، يمكن ملاحظة نمو القوى الصاعدة في مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي، حيث من المتوقع أن تقفز الهند إلى المرتبة الرابعة عالمياً بحلول عام 2025، لتتجاوز اليابان.21

الجدول 2: مؤشرات صعود القوى الاقتصادية الكبرى (2015-2025)

القوة

الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (2015) (تريليون دولار) 21

المركز الاقتصادي المتوقع (2025) 21

متوسط كثافة البحث والتطوير لأكبر 3 شركات (%) 22

دلالة على التحول
الولايات المتحدة18.211N/Aريادة تكنولوجية مع تراجع نسبي في الحصة العالمية.
الصين11.11213.97صعود بنيوي مدعوم بإنفاق كبير على التكنولوجيا والبحث والتطوير.
ألمانيا3.3636.97قوة أوروبية تقليدية تواجه تحديات التكتلات الصاعدة.
الهندN/A4N/Aتحول ملحوظ نحو تعددية قطبية حقيقية.

الباب الثاني: الجبهات الجديدة للتنافس العالمي (القوة غير التقليدية)

لم يعد التنافس العالمي محصوراً في الأدوات التقليدية، بل انتقل إلى جبهات غير مرئية وأبعاد اقتصادية تعتمد على السيطرة التكنولوجية والتحكم في الموارد الحيوية.

2.1. الجغرافيا السياسية للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي

تعد التكنولوجيا، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي (AI)، عنصراً مركزياً في إعادة تشكيل موازين القوى. ويشير تحليل معمق إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح عاملاً مؤثراً في تحولات القوة العالمية والعلاقات الدولية.23 ففي ظل تصاعد التوترات الدولية، لم يعد الأمن يُقاس بحجم الجيوش (القوة الصلبة)، بل بقدرة الدولة على حماية فضائها الرقمي.

لقد تحول الأمن السيبراني من مجرد إجراء تقني إلى أداة سياسية واستراتيجية تُستخدم لفرض الهيبة، أو حماية المصالح، أو حتى شن الحروب "من دون إطلاق رصاصة واحدة".7 وقد أثبتت الهجمات السيبرانية فعاليتها في تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية، من استهداف شبكات الطاقة إلى التدخل في الانتخابات.7 ولهذا، نشهد سباقاً متسارعاً بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، الصين) لتطوير القدرات السيبرانية الهجومية والدفاعية في هذه الجبهة القتالية غير المرئية.7

يتمثل التنافس الأبرز في السيطرة على التقنيات المعطِّلة (Disruptive Technologies) مثل الذكاء الاصطناعي، شبكات الجيل الخامس (5G)، الحوسبة، وأشباه الموصلات المتقدمة.24 وقد أقر حلف الناتو، على سبيل المثال، أن تفوقه التكنولوجي لم يعد مضموناً، خاصة مع سعي الصين لتصبح القوة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي في العقد المقبل.24

إن جوهر هذا التنافس هو عسكرة الذكاء الاصطناعي واستخدامه كسلاح استراتيجي جديد. ويثير هذا التطور مخاوف دولية، حيث حذر الأمين العام للأمم المتحدة من مخاطر "عسكرة الذكاء الاصطناعي" في عالم يحتاج إلى السلام.25 القوى التي تسيطر على بيانات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العسكرية (مثل أنظمة توجيه الأسلحة الذكية 12) ستحظى بتفوق استراتيجي لا يمكن للقوة الصلبة التقليدية أن توازيه، مما يغير تعريف التفوق العسكري بشكل جذري.

في هذا السياق، تواجه الدول النامية تحدياً مضاعفاً بسبب الفجوة الرقمية. تستحوذ الشركات العملاقة في الدول المتقدمة على معظم الابتكارات والتقنيات الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يحد من قدرة الدول النامية على الوصول إلى هذه الموارد.26 ومن المرجح أن تؤدي هذه السيطرة التكنولوجية إلى فرض ضغوط سياسية على الدول النامية.26 ولذلك، فإن بناء "السيادة الرقمية"، عبر تطوير القدرات السيبرانية الوطنية القوية وتأمين البنية التحتية الحيوية، أصبح ضرورة أمنية قصوى للدول المتوسطة، كما تدرك دول الخليج العربي أهمية هذا التحدي عبر إنشاء هيئات ومجالس وطنية متخصصة.7 كما أن الأمن السيبراني في قارة أفريقيا يواجه تحديات جمة، تشمل البرمجيات الخبيثة وهجمات الفدية، مما يهدد الاستقرار الوطني.27

2.2. صراع الموارد الاستراتيجية وإعادة تنظيم سلاسل الإمداد

في الاقتصاد الجيوسياسي الجديد، تحولت المعادن الأرضية النادرة من مجرد مواد خام إلى "الطاقة الجديدة" التي تحدد ملامح المستقبل. هذه المعادن (مثل النيوديميوم والدسبروزيوم) تعتبر ركائز أساسية للصناعات الحديثة المتقدمة، بما في ذلك السيارات الكهربائية، وتوربينات الرياح، والتكنولوجيا الدفاعية (كصواريخ كروز وأنظمة توجيه الأسلحة الذكية).12 وتشير التوقعات إلى أن الطلب على هذه المعادن سيزداد بنسبة قد تصل إلى 400% بحلول عام 2040.28

تتمثل نقطة الضعف الحيوية في هذا المجال بالهيمنة المطلقة للصين، التي تمتلك نحو 37% من الاحتياطيات العالمية، وتسيطر بشكل شبه كامل على كافة مراحل الإنتاج والمعالجة والاستخلاص.13 وتمنح هذه الهيمنة بكين نفوذاً جيوسياسياً يمكن استخدامه كأداة ضغط اقتصادي وسياسي ضد الغرب.13 هذا التنافس الاستراتيجي واضح في برامج مثل "صنع في الصين 2025" الذي يركز على الهيمنة على الصناعات المعتمدة على هذه العناصر.12

استجابة لهذا التحدي، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها لإعادة بناء قدراتها المحلية، وتأمين مصادر بديلة، والتحايل على السيطرة الصينية.12 وهذا يؤكد أن التنافس على المعادن النادرة هو صراع دولي شامل يمتد إلى مجالات الاقتصاد التكنولوجي والسياسة العسكرية، مما يثبت أن الاقتصاد تحول إلى أداة حرب متقدمة (Geo-Economics).28

بالتوازي مع صراع الموارد، أدت الحرب التجارية بين أمريكا والصين 29 وتداعيات جائحة كوفيد-19 إلى تسليط الضوء على هشاشة سلاسل التوريد العالمية. ونتيجة لذلك، أصبحت "إعادة تنظيم سلاسل التوريد العالمية" ضرورة ملحة، حيث تسعى الدول إلى استراتيجيات التوطين لضمان الاستدامة المحلية للإمداد.30 هذا التوجه نحو التوطين وخلق مسارات تجارية موثوقة (Friend-Shoring) يفتح فرصاً استثمارية جديدة للدول التي يمكن أن توفر قاعدة إنتاج آمنة وموثوقة، مما يضعها في قلب المعادلة الجيوسياسية الجديدة.

2.3. إعادة تشكيل النظام المالي (صعود البريكس والتخلي عن الدولرة)

يمثل صعود مجموعة "بريكس" (BRICS) بأعضائها الأصليين والجدد تحولاً جوهرياً يسعى إلى تحدي الهيمنة المالية الغربية. تتمحور الأهداف الرئيسية لبريكس حول تعزيز النمو الاقتصادي، وتوسيع النفوذ السياسي على الساحة الدولية، وإطلاق نظام مالي بديل يقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكي والمؤسسات المالية التي يهيمن عليها الغرب، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.10

لتحقيق هذا الهدف، شرعت دول البريكس في عام 2015 بتأسيس "بنك التنمية الجديد" (NDB) برأسمال ضخم، ليكون بديلاً أو "منافساً" للبنك الدولي، بهدف تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية في الجنوب العالمي.15 هذا التوجه المؤسسي يهدف إلى تقويض نظام بريتون وودز.

تعد استراتيجية التخلي عن الدولرة (De-dollarization) من أبرز مظاهر هذا التحول المالي.14 على الرغم من أن الدولار الأمريكي كان يُعتبر عملة لا تُمس، فإنه يواجه الآن تآكلاً بطيئاً ولكنه قد يكون مستداماً، مدفوعاً بالتحولات الجيوسياسية واتجاه الدول لتنويع احتياطياتها.14 ومما يسرّع هذا التحول هو الاستخدام المتزايد للعقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة، واستخدام أدوات مثل نظام سويفت (SWIFT) للضغط على دول معاقَبة مثل روسيا وإيران.15 هذا الضغط يدفع الدول للبحث عن بدائل للدولار، مما يهدد الهيمنة المالية الأمريكية.

إن مجموعة البريكس، بتوسعها، توفر "ساحة لطرح رؤى قوى الجنوب المتوسطة" 20، وهي تتيح لهذه الدول بناء قوتها ونفوذها على المسرح العالمي. ومع ذلك، فإن التحليل العميق يشير إلى أن توسع هذا التكتل قد يؤدي إلى تفتيت أو انقسام داخل كتلة "الجنوب العالمي" نفسها، حيث تبدأ القوى المتوسطة بالتنافس على النفوذ داخله. هذا التعقيد يفرض على الدول التي تتعامل مع كلا القطبين مهارة دبلوماسية فائقة لتجنب الانحياز التام.

كما أن التحول نحو نظام عالمي متعدد العملات (Multi-currency System) يزيد من تعقيد إدارة الاحتياطيات الوطنية والمالية الدولية.14 هذا يزيد من التقلبات وعدم اليقين للاقتصادات النامية، ويجعل المرونة في السياسات المالية والنقدية 30، وتقوية المؤسسات المالية المحلية، أمراً بالغ الأهمية. وفي خضم هذه التحولات المالية والجيو-اقتصادية، تتزايد أهمية الأصول الاحتياطية التقليدية، مثل الذهب، كملجأ استراتيجي في مواجهة الأزمات.32

الباب الثالث: الموقع الاستراتيجي للمغرب في ظل التحولات العالمية (تمهيد للمرحلة القادمة)

3.1. الأهمية الجيواستراتيجية للمغرب كجسر

يحتل المغرب موقعاً جيواستراتيجياً فريداً يجعله لاعباً محورياً في خضم التحولات العالمية. يتميز هذا الموقع بإطلالة مزدوجة على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، مما يجعله نقطة وصل حيوية وحاسمة في الممرات المائية العالمية، وبالأخص مضيق جبل طارق.33 هذا الموقع يمنح المغرب قدرة على التواصل الاقتصادي والسياسي مع أوروبا وأمريكا الشمالية وإفريقيا.

وقد استغل المغرب موقعه لتعزيز دوره كفاعل محوري في عمقه الإفريقي.34 ويتجسد هذا التوجه الاستراتيجي في مبادرات كبرى مثل "المبادرة الأطلسية" التي تهدف إلى تطوير اقتصاد بحري متكامل وتعزيز الاستثمار في مجالات مثل استخراج الموارد الطبيعية في أعماق البحار، وتحلية مياه البحر لدعم الزراعة، وتقوية الاقتصاد الأزرق وقطاع الطاقة المتجددة.35 وتستهدف هذه المبادرة دول الساحل والصحراء، مما يؤكد دور المغرب كقوة إقليمية ملتزمة بتنمية محيطها الأفريقي الأطلسي.

3.2. استراتيجية تنويع الشراكات (سياسة الأقطاب المتوازنة)

في مواجهة النظام العالمي المتعدد الأقطاب، تبنى المغرب توجهًا استراتيجيًا يقوم على تنويع شراكاته مع القوى الدولية والإقليمية.34 الهدف الأساسي من هذا التوجه هو تخفيف الثقل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، الذي يستحوذ على حوالي 60% من تجارة المغرب، والبحث عن شركاء دوليين لتنفيذ المشاريع العملاقة.36

تعد الشراكة المتنامية مع الصين مثالاً نموذجياً على هذه الاستراتيجية الموازِنة. فمنذ توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية في عام 2016، تضاعف حجم الاستثمار الصيني بالمغرب خمس مرات حتى عام 2023، وتضاعف حجم التبادل التجاري مرتين في الفترة نفسها.36 ترى الصين في المغرب "بوابة استراتيجية" للوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى اتفاقيات التجارة الحرة التي تربط المغرب بالأسواق الغربية.37

ويتركز الاهتمام الصيني بشكل متزايد على قطاعات استراتيجية، لا سيما صناعة البطاريات الكهربائية، مستفيدة من احتياطيات المغرب من المعادن الضرورية.37 وقد أدرجت مجلة الإيكونوميست المغرب ضمن الدول الأكثر استهدافاً بالاستثمارات الصينية في هذا المجال، وشهدت المملكة إعلانات عن استثمارات ضخمة تصل إلى مليارات اليورو في هذا القطاع الحيوي.37

إن هذا التفاعل الاستثماري ليس مجرد تبادل تجاري، بل هو مثال على استخدام المغرب لموقعه الجيواستراتيجي وقدراته التشريعية (اتفاقيات التجارة الحرة) ليصبح "منصة جيوبوليتيكية للتصنيع". فالشركات الصينية تسعى للاستثمار في المغرب كوسيلة للتحايل على القوانين التي تهدف إلى تقليص وجودها في الأسواق الأمريكية والأوروبية، مستفيدة من الإعفاءات الضريبية للبطاريات المصنوعة من مكونات قادمة من دول وقعت اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات المتحدة.37 هذا الدور الاستراتيجي يمنح المغرب نفوذاً تفاوضياً كبيراً مع كلا القطبين المتنافسين.

على الرغم من النجاح في تنويع الشراكات، لا يمكن إغفال التحدي الإقليمي المتمثل في التنافس بين المغرب والجزائر، وهو صراع تاريخي يعكس انعدام الثقة.38 هذا التوتر يفرض استنزافاً مستمراً للموارد، ولكنه في الوقت نفسه يدفع كلاً من الرباط والجزائر لتعميق علاقاتهما مع قوى عظمى متنافسة (المغرب مع الصين والهند والغرب، والجزائر مع روسيا). وهذا التفاعل يحوّل منطقة المغرب العربي إلى مساحة لـ "الاستقطاب العالمي المزدوج"، مما يضاعف من تعقيدات السياسة الخارجية للدولتين.

خاتمة التقرير والاستنتاجات الاستراتيجية

تؤكد التحولات العالمية في القرن الحادي والعشرين أن النظام الدولي يتجه نحو تعددية قطبية تنافسية وغير مستقرة، حيث تتآكل الهيمنة الأمريكية النسبية وتصعد قوى مراجِعة (الصين وروسيا والهند). وتكمن أبرز ملامح هذا التحول في انتقال جبهات التنافس من القوة الصلبة إلى القوة التكنولوجية (الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني) وإلى السيطرة على الموارد الاستراتيجية (المعادن النادرة) وإعادة تشكيل النظام المالي عبر تكتلات موازية مثل بريكس.

بالنسبة للمغرب، يمثل هذا المشهد الاستراتيجي تحدياً وفرصة في آن واحد. فمن جهة، يتطلب صعود التكنولوجيا (الذكاء الاصطناعي والسيبراني) بناء سيادة رقمية قوية لتفادي الوقوع تحت هيمنة القوى التكنولوجية.26 ومن جهة أخرى، يمنح التنافس العالمي على سلاسل الإمداد والمعادن النادرة المغرب فرصة لتعزيز موقعه كـ "منصة جيوبوليتيكية ذات مزايا استثمارية".37

تُظهر استراتيجية المغرب الناجحة في تنويع الشراكات (خاصة مع الصين، والتركيز على العمق الأفريقي عبر المبادرة الأطلسية) 34، نهجاً حكيماً في استغلال حالة تبدد القوة العالمية لصالح المصالح الوطنية. إن قدرة المغرب على تحقيق التوازن بين الأقطاب المتنافسة، واستخدام موقعه الجيواستراتيجي واتفاقياته التجارية لجذب الاستثمارات التكنولوجية الأجنبية المتصارعة، تعزز نفوذه وتضمن مرونته في بيئة دولية شديدة التقلب.

تعليقات