القائمة الرئيسية

الصفحات

الإدمان الرقمي وتأثير وسائل التواصل على الهوية والسلوك (تحليل نفسي واجتماعي معمّق)


الإدمان الرقمي وتأثير وسائل التواصل على الهوية والسلوك (تحليل نفسي واجتماعي معمّق)

الجزء الأول: تأطير الظاهرة وتحديدها

1.1. الإدمان الرقمي: التعريف والفروق التشخيصية

يمثل الإدمان الرقمي تحديًا حديثًا ولكنه متنامي الأهمية، حيث يُعرّف على أنه حالة من الاعتماد المفرط للأفراد على الأجهزة الرقمية، مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر، بالإضافة إلى التعلق المبالغ فيه بالمحتوى الرقمي، والذي يشمل وسائل التواصل الاجتماعي، الألعاب الإلكترونية، منصات الفيديو، والتسوق عبر الإنترنت.1 ويكمن جوهر هذا الاضطراب في فقدان الشخص للسيطرة على استخدامه لهذه الأدوات والمحتوى.

لقد تجاوز الإدمان الرقمي كونه مجرد سلوك شائع إلى اعتباره اضطرابًا متكاملًا تتداخل فيه الجوانب النفسية والصحية والاجتماعية.2 وتتجلى آثاره السلبية عبر العديد من التغيرات التي تطال الجوانب الجسدية والعقلية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية للفرد.2 إن التركيز على فقدان السيطرة وتدهور الأداء الوظيفي اليومي، بدلاً من مجرد قياس كمية الوقت المستهلك، يضع الإدمان الرقمي في مصاف الاضطرابات السلوكية التي تتطلب تدخلات سريرية وعلاجية متخصصة، مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، بدلًا من الاكتفاء بالنصائح التنظيمية العامة.

كما يشير التحليل إلى أن هذا الإدمان متعدد الأوجه؛ فهو لا يتعلق بالإنترنت كأداة فحسب، بل يرتبط بأنماط محددة من المحتوى تغذي حاجة نفسية معينة.3 على سبيل المثال، إدمان وسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بالحاجة المستمرة للموافقة الاجتماعية (الإعجابات والتعليقات)، بينما يرتبط إدمان مشاهدة الفيديو بالبحث عن الإشباع الفوري والترفيه غير المنظم، ما قد يؤدي إلى اضطراب أنماط النوم وإهمال الأنشطة اليومية.3 هذه الطبيعة المتنوعة للتعلق الرقمي تفرض ضرورة تبني بروتوكولات علاجية دقيقة ومخصصة تستهدف الآلية الإدمانية الكامنة وراء كل نشاط فرعي.

الجزء الثاني: هندسة الإدمان والآليات العصبية النفسية

2.1. الأساس البيولوجي للإدمان: الدوبامين ودائرة المكافأة

يعتمد الإدمان الرقمي، لا سيما على منصات التواصل الاجتماعي، على آليات بيولوجية دقيقة تستهدف نظام المكافأة في الدماغ. تعتبر ردود الفعل الرقمية مثل الإعجابات والتعليقات وعدد المتابعين محفزات قوية تؤدي إلى إفراز هرمون الدوبامين، وهو الناقل العصبي المرتبط بالمتعة والتحفيز.3 هذا الإفراز المفاجئ والسريع للدوبامين يخلق شعوراً بالإشباع الفوري لدى المستخدم، مما يدفعه إلى تكرار السلوك بحثًا عن الجرعة التالية من المتعة.3

يشكل هذا النظام حلقة مفرغة، حيث يصبح الرضا والقيمة الذاتية مرتبطين بكمية التفاعل الرقمي المحصود.4 هذا البحث المستمر عن الموافقة يدفع الأفراد إلى الرغبة في تفقد أجهزتهم الرقمية باستمرار، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ اضطراب التحكم في الاندفاع، حيث يجد الشخص صعوبة بالغة في تركيز انتباهه على المهام اليومية المطلوبة.3

2.2. استراتيجيات التصميم الإدمانية وتأثيرها

تُصمم التطبيقات الرقمية الحديثة بناءً على فهم معمّق للتوجهات النفسية البشرية بهدف تشجيع الاستخدام المفرط والمستمر، وهي ظاهرة تُوصف بأنها "استغلال نفسي".5 تعتمد هذه التصميمات على تقنيات مثل المكافآت المتغيرة المستمرة (مثل التمرير اللانهائي أو الإشعارات العشوائية) وألعاب التحديات، والتي تعزز الاعتماد على التطبيق.5

هذا النوع من التصميم يؤدي إلى زيادة إفراز الدوبامين في الدماغ، ما يعزز الاعتماد النفسي ويصعّب التخلص من الإدمان. وعندما يفقد الأفراد السيطرة على هذا السلوك، تبدأ في الظهور أعراض الانسحاب السلوكي والنفسي.6 فالشخص المدمن قد يشعر بـ الضيق أو القلق أو الغضب والتهيج عندما يُمنع من الوصول إلى الأجهزة الرقمية، وقد يضحي بساعات من نومه لحساب تصفح الإنترنت.3

إن هذه المعطيات تؤكد أن المشكلة تتجاوز نطاق السلوك الفردي لتصبح قضية تتعلق بأخلاقيات التصميم. يجب النظر إلى نماذج عمل المنصات التي تعتمد على "الاستغلال النفسي" لتحقيق الإبقاء على المستخدم كمسألة استراتيجية تتطلب تدخلاً تنظيميًا.5 فبدلاً من توجيه التكنولوجيا نحو مسارات استغلالية لتحقيق الربح، ينبغي على الشركات تطوير ميزات تعزز الرفاهية الرقمية والاجتماعية.

ويترتب على هذا الإشباع الفوري الرقمي 3 ظاهرة إعادة برمجة الدماغ، حيث يتدهور تفضيل الفرد للمهارات والتفاعلات الاجتماعية الواقعية.7 فالتفاعل المباشر مع الآخرين لا يوفر نفس "الجرعة السريعة" والمضمونة من الدوبامين التي توفرها الشاشة، مما يدفع الفرد إلى تفضيل العزلة الرقمية المريحة والمنشطة على حساب التفاعل الاجتماعي البطيء والمجهد، ما يؤدي إلى تآكل تدريجي في القدرات الاجتماعية.

الجزء الثالث: التأثير على السلوك والعلاقات الاجتماعية

3.1. اضطراب النوم والصحة الجسدية

تُعد اضطرابات النوم من أبرز التداعيات السلبية للإدمان الرقمي، لا سيما لدى الشباب. إن الضوء الأزرق المنبعث من شاشات الهواتف والأجهزة اللوحية له تأثير مباشر على آليات النوم البيولوجية؛ إذ يقلل من إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم دورة النوم والاستيقاظ، مما يعوق قدرة الفرد على النوم ويؤدي إلى الأرق.8 وقد يؤدي تدفق المحتوى الرقمي المثير إلى تقليص وقت النوم بشكل كبير، مما ينتج عنه الإرهاق النهاري وعدم القدرة على التركيز.9

على المستوى الجسدي، يتسبب الاستخدام المفرط والمطول للشاشات في مجموعة من المشاكل الصحية. تشمل هذه المشاكل إجهاد العين الرقمي (Digital Eye Strain)، والذي يتجلى في حرقان وجفاف العيون، تشوش الرؤية، والصداع.9 كما يساهم نمط الحياة الخامل والجلوس لفترات طويلة في آلام الرقبة والظهر، بينما يؤدي الانشغال المستمر بوسائل التواصل إلى التشتت المعرفي، مما يجعل من الصعب على الفرد التركيز على عمل محدد أو أداء واجباته التعليمية أو المهنية بكفاءة.2

3.2. تدهور العلاقات والتفاعل الاجتماعي

يؤدي الاعتماد المفرط على التفاعلات الرقمية إلى حلقة ردود فعل سلبية معقدة. فبمجرد أن يبدأ اضطراب النوم الناتج عن التعرض للضوء الأزرق 8، يزداد الإرهاق النهاري، مما يقلل من الطاقة النفسية والجسدية اللازمة للانخراط في التفاعلات الاجتماعية الواقعية المعقدة.9 هذا التدهور في المزاج والتركيز يجعل الهروب إلى العالم الرقمي المغذي للدوبامين أكثر جاذبية كآلية للتكيف، ما يعمق حلقة الإدمان والسلوك الانعزالي.6

يشعر الأفراد، نتيجة لهذا الاعتماد، بالانعزال أو الانفصال عن الحياة الواقعية، حيث يصبح التواصل المستمر عبر الإنترنت سببًا في انخفاض الروح المعنوية والعاطفية.10 ويلاحظ تدهور في المهارات الاجتماعية لدرجة أن الفرد قد يجد راحته في صحبة هاتفه بدلًا من التواجد وسط الناس.7 إن تقليص التواصل الوجهي في العلاقات هو أحد الأضرار المتكررة لإدمان وسائل التواصل.9

إن استمرار حالة الإدمان الرقمي يفرض ظاهرة الإرهاق الرقمي كظاهرة مجتمعية؛ فالضرر لا يقتصر على الصداع والأعراض الجسدية الفردية، بل يمتد إلى انخفاض الروح المعنوية والعاطفية على نطاق واسع.10 هذا يؤكد أن الإفراط في متطلبات الاتصال المستمر يهدد الإنتاجية المجتمعية والرفاه العام، مما يستدعي تدخلاً لتخفيف الضغوط الرقمية المفروضة على الأفراد.

الجزء الرابع: التحدي الأعمق: الهوية والصورة الذاتية

4.1. أزمة الهوية في العصر الرقمي

تعتبر مرحلة المراهقة فترة حرجة في صياغة الهوية، حيث يكون الشباب عرضة لأزمات نفسية قد تتخذ أشكالًا متطرفة وتصل إلى تشتت الهوية.11 وفي هذا السياق، يوفر العالم الرقمي مهرباً ومتنفساً للهويات التي تعاني من العزلة أو الاضطهاد في الواقع الاجتماعي.11 يتيح الإنترنت خاصية التخفي، مما يسمح للفرد بالتعبير عن هويته بوضوح وجلاء، حتى لو كانت أفكاره أو توجهاته صادمة أو غير مقبولة في مجتمعه الواقعي.11

ومع ذلك، فإن هذه القدرة على التعبير عن الذات في فضاء افتراضي تخلق خطرًا كبيرًا هو تنافر الهوية (Identity Dissonance)؛ إذ قد يقع الفرد في صراع بين هويته المكبوتة في عالم الواقع، والهوية التي يفصح عنها تحت أسماء مستعارة في العالم الرقمي.11

وتشير دراسات الهوية في السياق العربي والإسلامي إلى تصاعد الصراع بين الهوية الافتراضية، التي تسيطر عليها نزعات الحداثة والعولمة والاغتراب، وبين الهوية الأصيلة المشبعة بالتراث.12 وتنتج عن هذا الصراع إشكالية الهوية الواعية، حيث يكمن التحدي في كيفية استئناف السير الواعي بركب الحضارة الإنسانية دون الوقوع في فخ الاغتراب أو القطع مع التراث.12

4.2. فخ المقارنة والمثالية المفرطة

لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يمكن وصفه بـ "عالم مزيف" (Fake World)، حيث يُعرض فيه فقط الجانب المثالي واللقطات المنتقاة من حياة الآخرين، متناسيًا التأثير السلبي العميق لهذه الواجهة البراقة على المشاهد.13

تكمن خطورة هذه البيئة في فخ المقارنة الاجتماعية؛ حيث يقارن الشباب واقعهم الكامل بـ لحظات مزهرة من حياة الآخرين، مما يترك انطباعًا غير واقعي عن الحقيقة.13 هذه المقارنة غير العادلة تخلق ضغط المثالية، فالفلاتر وتعديل الصور تخلق نموذجًا غير واقعي، مما يدفع المراهق للشعور بأنه أقل جاذبية أو نجاحًا، وأنه يجب أن يكون "كاملاً" للحصول على القبول.14

هذه الآلية النفسية تؤدي إلى جلد الذات وزيادة القلق والشعور بعدم الكفاية، وقد تتطور لتصل إلى اضطرابات مثل تشوه الصورة الذاتية الجسدي (Body Dysmorphia)، حيث يصبح المراهقون شديدي الحساسية لمظهرهم.13 كما أن الاعتماد على عدد الإعجابات والمتابعين لتقدير القيمة الذاتية 4 يجعل الفرد هشًا، وأي تراجع في هذه الأرقام يؤثر سلبًا على ثقته بنفسه.14 ويزداد الأمر سوءًا بالتعرض للتنمر الإلكتروني، حيث تؤدي التعليقات السلبية أو السخرية إلى تراجع كبير في احترام الذات وقد تسبب الاكتئاب.14

إن هذا الارتباط الوثيق بين القيمة الذاتية والمكافآت الخارجية يكرس ظاهرة الهوية كعملة رقمية، حيث يتم بناء الهوية على الأداء المرئي (Performative Identity) الذي يحصد القبول الرقمي، بدلاً من الصفات الداخلية أو الإنجازات الواقعية.4 هذا التحول نحو ثقافة الصورة والفيديو 11 يغذي هوية استهلاكية سطحية على حساب العمق الفكري والشخصي.

الجدول 3: التداعيات النفسية لتشوه الصورة الذاتية في البيئة الرقمية

العامل المُحفزالآلية النفسيةالتأثير على الصحة العقليةالمصدر
المقارنة الاجتماعيةمقارنة "الواقع الكامل" بـ "اللقطات المثالية" للآخرين.الشعور بالنقص، جلد الذات، القلق المفرط13
البحث عن القبولربط القيمة الذاتية بعدد الإعجابات والمتابعين.تراجع الثقة بالنفس واضطراب تقدير الذات عند انخفاض التفاعل3
الخوارزميات المُخصصةرؤية الخوارزمية كـ "انعكاس دقيق للذات" دون وعي بعملية جمع البيانات.خطر تشويه الصورة الذاتية، فرط الحساسية والتثبيتات (Dysmorphia)15
التنمر الإلكترونيالتعرض لتعليقات سلبية أو سخرية مباشرة.تراجع حاد في احترام الذات، واكتئاب14

4.3. الخوارزميات وصياغة الذات

لعل أخطر ما يواجه الشباب هو الدور الذي تلعبه خوارزميات تخصيص المحتوى، مثل تلك المستخدمة في منصة TikTok. يرى المراهقون أن هذه الخوارزميات أصبحت دقيقة للغاية لدرجة أنها توفر "صورة مرآة موثوقة لأنفسهم"، ويفضلون المحتوى المخصص الذي يصور "ما يتفقون معه، وما يريدون رؤيته، وبالتالي، من هم".15

هذا القبول يجعل المراهقين يتبنون الإحساس الممنوح بالذات (Outsourced Identity)؛ فهم يعتمدون على نظام آلي لتحديد "من هم"، مما يشكل تنازلاً غير واعٍ عن عملية البحث الذاتي المعقدة. وعندما يظهر محتوى لا يتفق مع صورتهم الذاتية، فإنهم يسارعون إلى وصفه بأنه مجرد "خلل" أو نتيجة تفاعل غير مقصود، ويثقون بقدرتهم على تجاوز هذا المحتوى.15

إلا أن الباحثين يحذرون من أن هذه الثقة في تجاوز المخاطر غير مبررة؛ فبما أن أدمغة المراهقين مرنة بشكل خاص في تشكيل الهوية، فإنهم معرضون بشدة لتشويه الصورة الذاتية ومشاكل الصحة العقلية بسبب خوارزميات مصممة صراحة لمكافأة فرط الحساسية والتثبيتات.15 إن اعتمادهم على الخوارزمية كـ "مرآة موثوقة" بدلاً من التفكير الذاتي النقدي يؤدي إلى هشاشة نفسية عميقة.

الجزء الخامس: المقاربات العلاجية والوقائية (التدخلات الاستراتيجية)

5.1. التدخلات السريرية والنفسية

يُعد العلاج المعرفي السلوكي (CBT) المقاربة الأساسية القائمة على الأدلة في علاج الإدمان الرقمي.17 يهدف هذا العلاج إلى تعديل السلوكيات غير التكيفية والتفكير المشوه، مما يساعد في تقليل السلوكيات التي تؤدي إلى إفراز مفرط للدوبامين الرقمي.19 كما يتم استخدام العلاج السلوكي المعرفي بشكل فعال في علاج الاضطرابات النفسية المشتركة (Comorbidities) التي غالبًا ما تصاحب الإدمان الرقمي، مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب الوسواس القهري.18

تشمل البروتوكولات العلاجية المتخصصة الأخرى العلاج الأسري، والعلاج السلوكي الجدلي، بالإضافة إلى تقنيات اليقظة الذهنية (Mindfulness).17

تتطلب الاستراتيجية العلاجية الناجحة مقاربة بيولوجية سلوكية متكاملة. بما أن الإدمان الرقمي مرتبط بخلل في نظام الدوبامين الطبيعي، فإن العلاج يتجاوز مجرد تقليل وقت الشاشة إلى ضرورة استبدال مصدر الدوبامين.19 لذلك، تُعتبر التمارين الرياضية المنتظمة حجر الزاوية في العلاج غير الدوائي التكميلي، حيث تساعد على إفراز الدوبامين بطريقة طبيعية وصحية، مما يقلل من الحاجة إلى الإشباع الفوري الرقمي.18 كما أن تحسين جودة النوم يلعب دوراً حيوياً في تخفيف التوتر والآثار الجانبية لتقليل استخدام الإنترنت.19

5.2. التدابير الوقائية وتعزيز الوعي الرقمي

لمواجهة التأثير المتنامي للإدمان الرقمي وتشويه الهوية، تبرز أهمية التربية الإعلامية وتعزيز مهارات التفكير النقدي.21 هذه المهارات ضرورية لتمكين الأفراد من التمييز بوعي بين المحتوى البنّاء والهدّام، والتعامل بحذر مع الرسائل السلبية أو المثالية المفرطة.21

كما تتطلب الوقاية ترسيخ الرقابة النفسية الذاتية والوعي الذاتي لاتخاذ قرارات مستقلة ومسؤولة بعيدًا عن الضغوط الرقمية المستترة.21

على المستوى المؤسسي والأسري، يجب على الأسر وضع حدود واضحة للاستخدام اليومي وتعزيز الحوار المفتوح. ويجب على المدارس والجامعات تعزيز مهارات التفكير النقدي وتعليم الطلاب كيفية التحقق من المعلومات.22 ويتطلب الأمر جهدًا مجتمعيًا لتعزيز الأنشطة البدنية والاجتماعية التي تشجع على التفاعل الشخصي وتوفير بدائل صحية للإشباع الرقمي.22

ولبناء الحصانة النفسية كإجراء وقائي، يجب أن تتضمن التربية الإعلامية منهجًا أعمق يُعرف باسم التربية الخوارزمية (Algorithmic Literacy).23 يجب تعليم الشباب كيف تعمل أنظمة التخصيص ("من أجلك") وكيف يمكنها التلاعب بهويتهم وسلوكهم الاستهلاكي، بدلاً من اعتبارها مجرد "انعكاس" بريء للذات.15 إن رفع الوعي حول كيفية اتخاذ الخوارزميات قرارات حاسمة تتعلق بحيوات المستخدمين هو جوهر أخلاقيات الخوارزميات.

ومن المفارقات، يمكن للتكنولوجيا نفسها أن تلعب دورًا في الحد من الإدمان؛ إذ يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتقديم حلول مخصصة لإدارة وقت الشاشة وتعزيز "الرفاهية الرقمية"، من خلال تقديم توصيات أو قيود تلقائية على الاستخدام المفرط.5

الجزء السادس: السياق الإقليمي والتوصيات الاستراتيجية

6.1. الشباب العربي في سياق "الجيل المحروم"

تظهر دراسات إقليمية، مثل دراسة مؤسسة فريدريش إيبرت للشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2021/2022)، أن الشباب العربي (الذي تتراوح أعماره بين 16 و 30 عامًا) يواجه واقعًا معقدًا يضعه في خانة "الجيل المحروم".24 هذا الجيل يتشكل في سياق أزمات متعددة تتداخل فيها عمليات طويلة الأمد (كالإفقار وعدم الاستقرار) مع ديناميكيات قصيرة الأمد (كالأوبئة والصراعات).24

ويشير تحليل معمّق إلى التقاطع بين الهوية والفرصة الاقتصادية. ففي حين أن التكنولوجيا الرقمية تخلق فرصًا جديدة للشباب، فإن المنطقة العربية تعاني من عوائق تحد من الاستفادة الكاملة من هذه الفرص، مثل القوانين المعرقلة والبيروقراطية ونقص التمويل العالي، مما يفاقم أوجه عدم المساواة القائمة.25 بالتالي، قد يصبح الإدمان الرقمي في بعض الحالات هروباً نفسيًا و بحثاً عن الهوية الاقتصادية أو الاجتماعية عبر الفضاء الرقمي، حيث يعزز الإعلام الرقمي فرص التعلم والتعبير عن الآراء وريادة الأعمال التي قد تكون مقيدة في الواقع.22

على الرغم من الدور الإيجابي للإعلام الرقمي في التعبير والتعلم 22، تبرز تحديات هيكلية؛ حيث لا تزال البنية التحتية تشكل عائقاً في المنطقة، مع عدم وصول الإنترنت المستمر والقوي إلى نحو 30% من المناطق العربية.26 وهناك حاجة ملحة لتطوير الاستثمارات في البرمجة اللغوية والذكاء الاصطناعي لتعزيز القدرة التنافسية للمنصات العربية والحفاظ على الهوية الوطنية.26

الخلاصة والتوصيات الاستراتيجية

يمثل الإدمان الرقمي لدى الشباب اضطرابًا معقدًا ينشأ من تفاعل بين آليات الإشباع البيولوجي (الدوبامين) والتصميمات الاستغلالية للمنصات، ويتفاقم تأثيره ليطال الصحة النفسية والجسدية، ويفكك النسيج الاجتماعي، ويشوه الصورة الذاتية خلال مرحلة تكوين الهوية الحرجة. إن رؤية المراهقين للخوارزميات كـ "مرآة موثوقة" لذواتهم تدق ناقوس الخطر حول تفويضهم لهويتهم لأنظمة آلية، مما ينتج عنه جيل هش نفسياً وقابل للتلاعب به سلوكياً واستهلاكيًا.

ولمواجهة هذه الظاهرة، يجب أن تتجه الجهود نحو ثلاثة محاور استراتيجية رئيسية:

6.2. التوصيات الاستراتيجية لصناع القرار

6.2.1. تطوير قوانين حوكمة المنصات والرقابة الأخلاقية

يجب على الحكومات والمؤسسات المعنية العمل على تطوير القوانين والضوابط التي تحكم عمل منصات التواصل الاجتماعي للسيطرة على تجاوزاتها.26 يتطلب ذلك التعاون لتغيير بيئة العمل الإعلامي نحو تعزيز مفاهيم المواطنة وتطوير تكنولوجيا تعزز التواصل الإيجابي بدلاً من تصميمات الإدمان.5

6.2.2. تعزيز التربية الخوارزمية لبناء الهوية الواعية

ينبغي تجاوز مفهوم التربية الإعلامية التقليدية إلى إدراج مناهج "التربية الخوارزمية" (Algorithmic Literacy) في التعليم.23 الهدف هو تمكين الشباب من فهم كيفية عمل أنظمة التخصيص، وكيف تؤثر على آرائهم وسلوكهم الاستهلاكي، وإدراك أن هذه الخوارزميات ليست انعكاساً بريئاً للذات بل أدوات للتوجيه.15 هذا التدخل هو ضرورة لاستئناف الذات العربية والإسلامية السير الواعي بركب الحضارة الإنسانية مع الحفاظ على التراث.12

6.2.3. دعم الصحة النفسية المتخصصة وتفعيل العلاج البيولوجي السلوكي

يجب الاستثمار في إنشاء مراكز متخصصة في علاج الإدمان الرقمي في المنطقة.17 على هذه المراكز أن تعتمد على علاجات قائمة على الأدلة، وعلى رأسها العلاج المعرفي السلوكي (CBT) والعلاج الأسري، وأن تكون موجهة للشباب. ومن الضروري دمج العلاج غير الدوائي الذي يعتمد على النشاط البدني وتحسين النوم لتنظيم مستويات الدوبامين وإعادة ضبط نظام المكافأة في الدماغ، مما يقلل من حاجة الفرد إلى الإشباع الفوري الرقمي.18 كما يجب على المؤسسات تشجيع الأنشطة البدنية والاجتماعية التي تهدف إلى تحويل الاستخدام المفرط إلى استخدام منتج وبناء شخصي.

تعليقات